غادة بوشحيط – الناس نيوز :
تتصدر منذ أسبوعين تقريباً رواية الكاتبة البلجيكية “أميلي نثومب” “دم أول” مبيعات الكتب في فئة الأدب، بحسب موقع “إيدي ستات” المتخصص في إحصائيات مبيعات الكتب في فرنسا.
تعتبر “دم أول” الصادرة عن دار “ألبان ميشال” أواخر شهر أغسطس/آب 2021 الرواية الثلاثين في تاريخ الروائية البلجيكية ، التي ترجمت العديد من عناوينها إلى اللغة العربية كـ “لا حواء ولا آدم”، “نظافة القاتل”، وغيرها من الأعمال التي تجعلها من كتاب الفرنسية الأكثر مقروئية وترجمة إلى اللغة العربية .
تدشن الكاتبة الدخول الأدبي ” الفرانكوفوني بالمؤلف رقم مئة في تاريخها، وتحكي فيه سيرة والدها الديبلوماسي البلجيكي “باتريك نوثومب”، منذ وفاة والده العسكري “بيير نوثومب” وحتى الحادثة التي قلبت حياته المهنية والشخصية، اختطاف رهائن من طرف جماعة مسلحة تسعى لاعتراف بلجيكا والمجتمع الدولي بحدودها، في “ستانلي فيل” بجمهورية الكونغو الديمقراطية.
لا تغامر الكاتبة خارج أسوار التحليل الفرويدي، إذ تحكي علاقة والدها شبه المرضية بوالدة لم تعره الكثير من الانتباه ولا العطف، هي التي ترملت بسن الخامسة والعشرين بالكاد، بعد وفاة زوجها العسكري، تنتقل إثر ذلك لتعيش بين أحضان والدها الجنرال وأمها الحنون.
يتكفل الاثنان بتربية الصغير “باتريك”، وبينما يحاول الجنرال أن يلقن شيئاً من الصرامة للولد الصغير، تفشل زوجته جميع المساعي، لذلك وهي تبالغ في العطف عليه. يترعرع الطفل في كنف هذه العائلة الأرستقراطية، ويظهر منذ صغره ذكاءً متميزاً.
حين يقترب الولد من سن المدرسة، يقرر الجد العسكري الصارم إرساله إلى جده أب والده، حتى يحظى بفرصة الاختلاط بعوالم أخرى مختلفة عن المحيط الذي صار يحول حفيده إلى دمية في يد جدة مفرطة في عطفها، ووالدة شابة تسعى خلف مشاعرها، يزداد الصبي وزناً، مفتقداً إلى الصلابة في غياب مثال أعلى ذكري، وهي الجملة التي سيظل يكررها في مختلف مراحل حياته.
يكتشف الصغير عالماً آخر بقصر جده في مدينة “بون دوي”، قصر أشبه بكوخ، وجد طلَق المحاماة لأجل المجد، أشبه بـ “دون كيخوت” بطل رواية الكاتب الإسباني “سرفانتيس”، يقنع الولد الصغير أنه وريث كل هذا المجد بعد عمر وأي مجد، سرعان ما يتعرف إلى أعمامه ممن هم في سنه، أقل أو أكبر أشبه بعصابة، لا تولى لهم أي عناية، بل حتى أنهم يأكلون حد الشبع، يسلبون قريبهم كل الأشياء الجميلة التي أرسلتها الجدة الحنون معه، ولكنه على غير المتوقع سرعان ما يندمج معهم.
بعد نهاية العطلة التي قررها له الجد يعود إلى أحضان أمه ووالديها، على وعد أن يزورهم في عطلة الميلاد وذلك ما سيفعله، ولكن سيضطر بعدها إلى مباعدة زياراته بعد أن صار يشكل عبئاً مادياً عليهم، هم الذين بالكاد يجدون ما يسد رمقهم. يصبح الولد الصغير مراهقا، وتهز أولى رياح الحب قلبه، وتهز معها قدرته على تحمل منظر الدم.
إذ يكتشف وهو يرافق صديقاً له لمواعدة إحداهن بعدم تحمله لمنظر الدم بمنديل صديقه المصاب بالسل، ليسقط مغشياً عليه، وتنفض الجميلات من حوله فبحسبهن لا يمكن أن يكون الرجل رجلا وهو لا يتحمل شيئاً بسيطا كهذا.
تواصل الكاتبة سرد أحداث حياة والدها، وكيف اضطر ليدرس الحقوق عكس مشيئة عائلته التي لها تاريخ طويل في خدمة جيش بلجيكا، حيث وقفت “إعاقته” في تحمل منظر الدم أمام أي طموح في هذا الاتجاه.
يصير الولد الصغير شابا ويقرر الزواج ليقف جده الشاعر مرة أخرى في وجه مشيئته، بحجة أن العائلة التي سيصاهرها ليست من طبقتهم نفسها، لكن الولد يتشبث برأيه ويفرضه بعد عناء عليه.
تنتهي الرواية وهي تحكي كيف تجاوز الولد الذي أصبح قنصل بلده في “ستانلي فيل”، بجمهورية الكونغو الديمقراطية أزمته في التأثر السريع بمنظر الدم، وكيف ستلعب قدرته على المحاججة، التي لا يملك غيرها، من الحؤول دون وقوع مزيد من الضحايا، وإطالة عملية الاحتجاز التي تعرض لها رفقة المئات من مواطنيه المتواجدين هناك.
تحيل الكاتبة على المؤلف الذي أصدره والدها سنوات التسعينيات، ويحكي تفاصيل هذه الأزمة وتنهي به روايتها. تتميز “الساحرة نوثومب” بأسلوب شيق في السرد، ولكن فيما التميز إذ تلد والدها؟ ذلك الوصف الوحيد الذي وجده الإعلام، الذي بدا متحمساً إلى الرواية الجديدة للبلجيكية صاحبة الجوائز الكثيرة، الذي توفي في أول أيام الحجر الصحي.
تعد عائلة “نوثومب” من العائلات الأكثر شهرة في بلجيكا، وقد منحت على مدى أجيال مثقفين ووزراء ودبلوماسيين وكتاب على غرار “أميلي” و”بيير”، تتميز الكاتبة في تكسير الصورة النمطية عن العوائل كالتي تنحدر منها إذ تخلط الهزل بالسخرية، بل تذهب حتى التصوير الكاريكاتوري لمواقف وشخوص من دمها “الدم الأول” ربما الدم الذي ورثها ملكة الكتابة الإبداعية. غير أن القارئ يبقى على جوعه إذ ينهي الرواية باحثاً عن المتميز فيها، عما يجعلها تحتل لأسبوعين حتى الآن صدارة الروايات الأكثر مبيعاً في دولة كفرنسا.
لا شيء ربما غير شهرة الكاتبة والجوائز العديدة التي نالتها في السابق، غزارة إنتاجها، وكونها بحد ذاتها أشبه بشخصية فرت لتوها من قصة عجائبية أو فيلم هوليوودي جميل.
تذكرنا رواية “دم أول” ل”نوثومب” برواية السويسري “جويل ديكر” “لغر الغرفة 622” التي صدرت شهر أيار/مايو 2020 عن دار نشر “لوفالوا”، والتي ظلت متربعة على عرش الروايات الأكثر مبيعاً لأسابيع طويلة، وشغلت الإعلام والقراء، مستفيدة من النجاح الشعبي والنقدي الذي حظيت به رواية أخرى للكاتب “الحقيقة حول قضية هاري كيبر”، التي صدرت سنة 2012 عن دار “لوفالوا” و”لاج دوم”، وتحول بفضلها الروائي العشريني آنذاك، الذي سبق وحصد جوائز إلى مشروع كاتب جدي، ينتظر جديده بحفاوة.
لا يمكن إنكار جهد “ديكر” وتميزه في كتابة رواية تشويق ممتازة، إذ كانت قفلات فصول “لغز الغرفة 622” متميزة وموفقة، كذلك تلاعبه بالقارئ وذكاؤه واستغلال حيل صبيانية، إن جاز استخدام هذا التعبير، في إقناع القارئ. اعتبرت رواية “ديكر” رواية بوليسية، وهو من الأنواع الأدبية الأكثر شعبية في أوروبا، لها جمهورها المتمرس، في حين لا تأتي المعالجة البوليسية فيها إلا في جزء صغير منها.
لا يمكن بأي حال اعتبار رواية “دم أول” أو “لغر الغرفة 622” روايات سيئة، فجهد الكاتبين واضح، وميكروكوزم الرواية تام التكوين، إلا أنها تثير في نفس القارئ أسئلة أخرى عن جدوى مثل هذه الأعمال، عن عمق الطرح الروائي الذي يتبناه أي كاتب، عن الهاجس الإنساني الذي يغيب فيها، عن جدل مصداقية “الباست سالر” وإلى أي مدى أمكن الوثوق بالجمهور وخياراته، عمّا يمكن أن يرفع كتابا إلى مصاف الأكثر مبيعا ومدى قدرة كاتب “الباست سالر” على إخراج روايات يمكن أن تخضع للمعايير الشعبية والنقدية.
غادة بوشحيط.