[jnews_post_author ]
إذا كانت آيات القرآن الكريم أول ما يتعلمه التلاميذ المسلمون بعد حروف الهجاء، فقد كانت الفلسفة أول ما يتعلمه التلاميذ الصينيون بعد الرموز الكتابية الصينية، وكانت الكتب الكونفوشية الأربعة هي المقررات الدراسية الأولى الموضوعة بين أيديهم. وإذا كان التلميذ المسلم يتعلم تجويد آيات الكتاب بعد تعلم قراءتها، فقد كان لدى التلاميذ الصينيون كتيباً للتجويد أيضاً، يتكون من جملٍ مختارة من الكتب الكونفوشية، تتألف كل جملةٍ من ثلاثة رموزٍ كتابية تم اختيارها بطريقةٍ تجعل قراءتها تُـحدث إيقاعاً موسيقياً يساعد على حفظها. وإذا كانت الجملة الافتتاحية في كتاب القرآن تقول: “الحمد لله رب العالمين”، فإن الجملة الافتتاحية في كتيب التجويد الصيني تقول: “إن الطبيعة الأصلية للإنسان خيّـرة”. أي إن الجملة الافتتاحية في التعليم الإسلامي تضع قارءها في لبّ الدين، أما الجملة الافتتاحية في التعليم الصيني فتضع قارءها في لبّ الفلسفة.
إن الدور الذي لعبته الفلسفة في الثقافة الصينية، يعادل الدور الذي لعبه الدين في الثقافة الأوروبية والشرق أوسطية. ولعل هذا ما دفع البعض إلى اعتبار الكونفوشية (وهي الفلسفة الأكثر تأثيراً على الثقافة الصينية) ديناً. ولكن الكونفوشية في واقع الحال ليست ديناً، شأنها في ذلك شأن فلسفة أفلاطون أو أرسطو أو حتى أفلوطين الاسكندري الذي كانت الإلهيات محور تفكيره. وعلى الرغم من أن الكتب الكونفوشية الأربعة كانت بمثابة إنجيلٍ للصينيين، إلا أن أياً منها لم يبشـر بإلهٍ أعلى خالقٍ للسماء والأرض، ولم يحتوِ على قصةٍ للخلق والتكوين، أو على تصوراتٍ آخروية عن نهاية العالم ويوم الحساب، وعن الجنة والجحيم.
إن الدين والفلسفة يتفقان في أن جوهرهما يقوم على التفكير المنهجي المنظم في شؤون الإنسان والحياة والكون. وهذا يعني أن في كل دينٍ شيئا من الفلسفة ولكن العكس ليس كذلك، لأن الفلسفة تفتقد إلى الأساطير والعقائد والعبادات التي تميز الدين. فهي بالدرجة الأولى أفكار، وهذه الأفكار لا تنتظم في إيديولوجيا ودوغما كما هو حال الأفكار الدينية.
ولهذا فإن الرأي الشائع الذي يقول إن في الصين ثلاثة أديان هي الكونفوشية والتاوية والبوذية، هو من قبيل تبسيط الأمور. فالكونفوشية ليست بالتأكيد ديناً، أما فيما يتعلق بالتاوية، فعلينا التمييز بين التاوية الفلسفية، أي تاوية المعلم الأول لاو تسو ومن بعده المعلم الثاني تشوانغ تسو، والتاوية الطقسية التي تحمل ملامح الدين، والتي نشأت بعد لاو تسو بعدة قرون وادعت الانتساب إلى لاو تسو على الرغم من الفوارق الجذرية بينهما. فالتاوية الفلسفية تقوم على مبدأ التوافق مع صيرورة الطبيعة، أما التاوية الطقسية فتعمل أحياناً على معاكسة الطبيعة. والمثال على ذلك أن لاو تسو يرى أن تناوب الحياة والموت هو قانونٌ طبيعي، وأن على الإنسان أن يقبل الموت مثلما قـبل الحياة، أما التاوية الطقسية فقد ابتكرت تقنيات من شأنها إطالة العمر وطمحت إلى تفادي الموت.
وفيما يتعلق بالبوذية، فقد تبـدّت في صيغتين صيغة فلسفية وصيغة دينية، وكانت الصيغة الفلسفية هي ما يراه المثقف الصيني في البوذية. ولهذا فقد كان من المألوف رؤية كاهنٍ تاوي وكاهنٍ بوذي يقومان بطقوس الجنازة لإحدى الأسر، ولا يجد أحدٌ في ذلك غضاضة، لأن الصيني بشكلٍ عام يأخذ دينه فلسفياً، إذا كان ذا دين. فالصينيون أقل الشعوب اهتماماً بالدين، وعبر تاريخهم كانت الفلسفات الأخلاقية هي أساس حياتهم الروحية، ومن خلال الفلسفة كانوا يُـرضون ذلك السعي الإنساني إلى السمو فوق مجريات العالم المادي.
الديانة الصينية التقليدية لم تأخذ مفهوم الألوهة المفارقة للعالم بشكلٍ جدي
ونحن إذا عدنا إلى ما قبل القرن السادس ق.م الذي أخذت فيه المدارس الفلسفية المختلفة بالتوضح، نجد أن الديانة الصينية التقليدية لم تأخذ مفهوم الألوهة المفارقة للعالم بشكلٍ جدي، ولم يكن لديها تصورٌ واضح عن إلهٍ يتربع على عرش الكون ويتحكم فيه عن بُـعد. وعلى الرغم من أن الميثولوجيا الصينية حافلة بالآلهة من شتى الاختصاصات، إلا أن هؤلاء لم يكونوا في حقيقة الأمر إلا أسلافاً أسطوريين جرى رفعهم إلى مرتبة الآلهة. وتُـظهر السِـير المتداولة عن حياتهم كيف ابتدأ أمرهم كرجالٍ صالحين على الأرض قـدَّموا خدماتٍ جلـى لمجتمعهم، وكيف تم تأليههم وعبادتهم فيما بعد. ومما يلفت النظر في أمر الآلهة الصينية أنها لا تتمتع بشخصياتٍ واضحة ووظائف دائمة، وهي تبدو لنا مثل كياناتٍ شبحية تكتسب قوتها من قوة المنصب الذي تشغله. ذلك أن الوظيفة الإلهية هي الثابتة، أما شاغلوها فمتبدلون. ففي كل إقليمٍ من الأقاليم الصينية يجري توزيع الوظائف والاختصاصات الإلهية بشكلٍ مختلف عن الإقليم الآخر، وقد يجري في إقليمٍ معين رفع إلهٍ إلى أعلى من مرتبته في إقليمٍ آخر، أو تخفيض مرتبته، أو حتى صرفه من الخدمة إذا فشل في مهمته، كأن يفشل إله المطر في إنزاله لسنواتٍ عديدة ويغدو لابد من إعفائه من منصبه والبحث عن بديلٍ له. وقد عبَّـر الفيلسوف منشيوس عن هذا الموقف الصيني من الآلهة في كتابه المعروف باسمه حيث قال: “إذا كانت حيوانات القربان في صحةٍ جيدة، وحبوب القربان نقية، وجرى تقديم القرابين لآلهة الأرض والحبوب في وقتها، ومع ذلك فشلت في منع الجفاف والفيضانات، فإنها تُـستبدل.” (منشيوس 14:14).
أما المصدر الحقيقي لقوة الآلهة، فهو مفهومٌ تجريدي عن الألوهة يتمثل في قوة السماء المدعوة تي يين، التي جرى تصورها كقوةٍ تشغل الجهة العليا من قبة السماء. وهي قوة غير مشخصة لا تتمثل في شخصيةٍ إلهيةٍ معينة، ولا تتصل بالبشر عن طريق رُسـلٍ يشرحون مقاصدها، بل إن الناس هم الذين يتواصلون معها من خلال تقنيات الاستخارة والتنجيم والعرافة. فإذا تجردت قوة السماء حتى من القبة الزرقاء التي اعتُـبرت مظهرها المرئي، فإنها تلتقي مع مفهوم التاو الذي لعب الدور الأهم في تاريخ الفكر الديني والفلسفي الصيني. وهذا المفهوم لا يتطابق مع أي مفهومٍ نعرفه عن الألوهة المفارقة الخالقة للعام والمتحكمة به، بل هو الخميرة الفاعلة في العمليات الجارية على مستوى الكون والطبيعة من الداخل لا من الخارج. فهذه العمليات لا تتطلب عنصراً خارجياً يدفعها، بل إنها تعمل وفق تلقائية شمولية يتبادل من خلالها كل عناصر الوجود الأثر والتأثير في سلسلةٍ مترابطة لا يوجد فيها علة ومعلول.
الميتافيزيك الكونفوشيوسي والميتافيزيك التاوي
ولقد كانت قوة السماء ركيزة الميتافيزيك الكونفوشي، أما التاو فقد كان ركيزة الميتافيزيك التاوي.
وبما أن هذين الفيلسوفين كانا بمثابة الركيزة التي قامت عليها الفلسفة الصينية، فسوف أتوقف عندهما من أجل استقصاء الدور الذي لعبه الدين في الثقافة الصينية مقارنة بالثقافة العربية، فأبدأ بعرض موجز يتناول نظرة كونفوشيوس إلى الدين والمسائل الميتافيزيكية بشكل عام، ثم انتقل إلى لاو تسو لأجري مقارنة بين أفكاره و العقيدة الإسلامية، التي تحكمت بالثقافة العربية عبر تاريخها و وضعت محددات للفلسفة العربية استنفدت طاقاتها الابداعية في سعيها للتوفيق بين الفلسفة و الدين.
في فلسفة كونفوشيوس الأخلاقية التي تركز على إصلاح المجتمع والفرد لا يوجد متسع للغيبيات ومسائل ما وراء الطبيعة، ولهذا لم يكن لدى كونفوشيوس نظرية في نشأة الكون ومآله، وفي الموت وما بعد الموت، ولم يأتِ على ذكر الآلهة التقليدية في الديانة الصينية. وقد ورد في كتاب الحوار على لسان أحد تلاميذه: “لم يكن المعلم يكترث بمناقشة الظواهر الغريبة، والخوارق، وقصص الأشباح”. وعندما سأله تلميذٌ آخر عن خدمة الأموات أجابه: “أنت لم تعرف بعد كيف تخدم الأحياء، فكيف تستطيع خدمة الأموات؟” ثم عاد فسأله عن الموت فأجابه: “أنت لم تفهم بعد ما هي الحياة فكيف تسأل عن الموت؟” أي إن على الإنسان أن يأبه إلى حياته هذه، ولا يعبأ بما كان عليه قبلها ولا بما سيأتي بعدها، لأن ذلك في حكم المجهول الذي لا ينبغي أن نشغل بالنا به. والكونفوشية تتفق هنا مع التاوية في فلسفة الحياة والموت، والتي عبَّـر عنها تشوانغ تزو المعلم الثاني للتاوية في هذا المقطع من الكتاب الذي يحمل اسمه:
“الناس في الأيام الخوالي لم يعرفوا التعلق بالحياة ولا كره الموت. الولوج إلى الحياة لم يكن بهجة لهم، والخروج منها لم يكن يثير فيهم جزعاً ومقاومة. بهدوءٍ كانوا يأتون وبهدوءٍ كانوا يمضون. لا ينسون ما كانت عليه بدايتهم ولا يتساءلون عما ستؤول إليه نهايتهم. لقد قبلوا الحياة واغتبطوا بها ثم آلوا إلى حالة ما قبل الحياة”.
المسألة الميتافيزيكية الوحيدة التي أولاها كونفوشيوس اهتمامه هي الحضور الروحي الجليل في العالم للسماء باعتبارها قوة أخلاقية شمولية تهيمن على الكل. وعلى الرغم من أن السماء منزهة عن الشخصية التي تتمتع بها الآلهة، إلا أنها ذات مقاصد في عالم البشر. ولذلك يتحدث كونفوشيوس مراتٍ عديدة في كتاب الحوار عن “مشيئة السماء” / Ming باعتبارها قوة ذات إرادة وفعل، وعن أهمية معرفة هذه المشيئة بالنسبة للإنسان. ولما كانت معرفة مشيئة السماء تَـخفى علينا في معظم الأحيان، فما على الإنسان إلا أن يقوم بواجباته على الوجه الأكمل، ثم يترك الفشل والنجاح لتلك المشيئة، وهذا ما يحررنا من القلق بخصوص النجاح أو الفشل، ويجعلنا سعداء في الحالين.
وقد كان لدى كونفوشيوس إحساسٌ طاغٍ بأنه مكلف من السماء برسالته الأخلاقية وهي التي تعمل على حمايته. فعندما كان مهدداً من وزيرٍ في حكومة إحدى الدول قال لتلاميذه: “السماء زرعت في داخلي الفضيلة، فأي أذى يمكن أن يلحقه بي هوان تي؟” وعندما شعر بالخطر على حياته عندما كان يعبر مقاطعة كوانغ، وقلق عليه تلاميذه قال لهم: “بعد زمن الملك شون صرت قـيّـماً على الثقافة بدلاً عنه. فإذا شاءت السماء للثقافة أن تضمحل فلن تصل إلى الأجيال اللاحقة، ولكن بما أنها لم تشأ ذلك فما الذي يستطيع أهل كوانغ أن يفعلونه بي؟”.
نأتي الآن إلى لاو تسو و كتابه تاو تي تشنغ، لنقارن بين الفكر التاوي الكلاسيكي و الفكر الديني الإسلامي و من وراءه الأديان التوحيدية من زراداشتية و مانوية و يهودية و مسيحية. وسوف أستخدم في سياق المقارنة تعبير “الفكر الديني” في الإشارة إلى العقيدة الإسلامية و بقية عقائد التوحيد الشرق أوسطية.
لا يزيد عدد صفحات كتاب التاو تي تشينغ عن عدد صفحات ديوان شعر حديث من القطع الصغير، ولكنه مارس تأثيراً واسعاً على الفكر الصيني والفكر الشرق أقصوي عموماً. والمؤلف لم يتبع فيه الأسلوب الفلسفي التقليدي، وإنما صاغ أفكاره على شكل حِكمٍ قصيرة ومختزلة وعلى درجة عالية من التجريد بلغت درجة الإلغاز أحياناً. وهذا ما جعل الباحثين شرقاً وغرباً وحتى يومنا هذا في جدل بخصوص تفسير وتأويل مقولاته. تُرجم الكتاب إلى معظم لغات العالم الحية، وقدمتُه إلى قراء العربية في كتاب صدر لي عام 1998 تحت عنوان: كتاب التاو تي تشينغ- إنجيل الحكمة التاوية. وبعد ذلك تعاونت مع صديقي الباحث الصيني شوي تشينغ قوه على إنجاز كتاب جديد في الموضوع نفسه صدر باللغتين العربية والصينية عام2009 في بكين، ضمن سلسة “كنوز التراث الصيني باللغات الأجنبية” المدعومة من وزارة الثقافة الصينية.
وفيما يلي أهم الأفكار التي وجدتها صالحة للمقارنة بين الجانبين:
في طبيعة المبدأ الكلي :
المبدأ الكلي في الفكر الديني هو كائن عُلوي يتمتع بشخصية كما لأفراد البشر، وله اسم يعرف به، مستقل عن العالم ويفعل فيه فعلاً إرادياً ذا هدف وغاية. أما المبدأ الكلي عند لاو تسو فقدرة غير مشخصة لا اسم لها ولا شخصية ولا إرادة فاعلة. وهو إذ يدعوها التاو، أي الطريق، فإنه لا يسميها وإنما يصرف ذهن السامع عن الاسم إلى الطريقة التي يفعل بها هذا المبدأ في الكون. ولذلك يقول في الفصل الأول:
التاو الذي يمكن التحدث عنه
ليس التاو السرمدي
والاسم الذي يمكن إطلاقه
ليس الاسم السرمدي
اللا مسمى هو بداية السماء والأرض
ويقول في الفصل 25 :
لا أعرف اسمه فأدعوه التاو
لا أستطيع وصفه فأقول العظيم
عظمته امتداد في المكان
الامتداد في المكان يعني امتداداً بلا نهاية
الامتداد بلا نهاية يعني العودة إلى نقطة المبتدى .
في معرفة المبدأ الكلّي:
يعلن الله عن نفسه في الفكر الديني من خلال اتصاله بمختارين من البشر هم الأنبياء الذين يُعرّفون الناس به ويوصلون لهم مشيئته من خلال كتب تحتوي كلام الله نفسه أو كلاماً مدوناً بإلهامه. فالحكمة التي تعين البشر على معرفة المبدأ الكلي هي، والحالة هذه، حكمة إلهية هبطت من السماء. أما حكمة لاو تسو فحكمة استنبطها الإنسان، ومعرفة المبدأ الأول لا تأتي من قراءة الكتب المقدسة، وإنما تأتي عن طريق تجربة داخلية تجعلنا في تواصل مع هذا المبدأ دون كلمات. ولذلك يقول المعلم في الفصل الخامس :
الكلام الكثير يقود أخيراً إلى الصمت
ثَبِّت قلبك على جوهر الفراغ .
ويقول في الفصل 23 :
في قلة الكلام تناغم مع الطبيعة
الطبيعة لا تُعبر عن نفسها بالكلمات .
ويقول في الفصل 56 :
الذي يعرف لا يتكلم
والذي يتكلم لا يعرف
ويقول في الفصل 16 :
أتأمل الفراغ المطلق
البث في سكون
الآلاف المؤلفة تنشأ في تواقت معاً
وأنا أرقب دورانها المستمر
في حالة التواصل الداخلي هذه، لا يطمح الحكيم إلى معرفة التاو بالوسائل العقلية وإنما بالوسائل الحدسية، بالاستسلام له والتلاؤم مع فعله التلقائي في الكون. يقول المعلم في الفصل 48 :
في طلب العلم تعرف في كل يوم أكثر
في طلب التاو تبذل في كل يوم أقل
تبذل أقل فأقل حتى تصل إلى حالة اللا فعل
ويقول في الفصل 47 :
من غير أن تسافر بعيداً
تستطيع أن تعرف العالم
من غير أن تنظر من النافذة
تستطيع أن ترى طريق السماء
كلما ابتعدْتَ أكثر كلما قَلَّتْ معرفتك .
في الخلق والتكوين :
في الفكر الديني يظهر العالم إلى الوجود من خلال فعل إرادي للإله الخالق، وخطة محكمة مسبقة ذات مقاصد محددة في عقله المستقل المفارق لعالم المادة والفاعل فيها.
أما عند لاو تسو فإن وجود العالم هو فيض دائم من التاو يشبه فيض النور عن الشمس، وهذا الفيض ليس فعلاً إرادياً بقدر ما هو فعل تلقائي. والفعل التلقائي المختلف عن الفعل القصدي هو نوع من اللافعل، إنه أشبه بتفتُّح زهرة تدفعها فعالية خلاقة من داخلها لا من خارجها. من خلال هذه الفعالية التلقائية يتحوَّل التاو إلى ما لا يحصى من المظاهر الحية والجامدة عن طريق تناوب قوتين رئيسيتين تتخللان العالم هما قوة اليانع الموجبة وقوة الين السالبة. يقول المعلم في الفصل37:
التاو ليس من شيمته الفعل
ومع ذلك لا يترك شيئاً بحاجة إلى إتمام .
ويقول في الفصل 40 :
بتكامل الأضداد يتحرك التاو
باللين ينجز عمله
الآلاف المؤلفة في العالم نجمت عن وجود
والوجود نجم عن عدم
ويقول في الفصل 42 :
التاو أنجب الواحد
الواحد أنجب الاثنين
الاثنين أنجبا الآلاف المؤلفة
الآلاف المؤلفة تحمل الـ” ين” على كتفها
وتعانق الـ” يانغ ” بالذراعين
الآلاف المؤلفة ناتج تناغم هاتين القوتين
ويقول في الفصل 4 :
التاو فارغ
ولكن النضح منه لا يُنضبه
لا يُسبر غوره، منشأ الآلاف المؤلفة .
وما دام التاو ليس خالقاً للعالم بالمعنى المتعارف عليه، فإنه لا يلعب تجاهه دور السيد المتحكم فيه المُسيِّر له وفق إرادته، بقدر ما يلعب دور القوانين الطبيعية في المفاهيم العلمية الحديثة. فالأشياء في المفهوم التاوي تنشأ تلقائياً وبشكل متزامن في معزل عن مبدأ السببية، فلا حاكم ولا محكوم والكل يحدث من تلقاء ذاته وفي ارتباط وثيق مع حدوث الآخر. عن هذا النشوء التلقائي المتزامن يقول تشوانغ تزو تلميذ المعلم :
” قد يبدو أن للعالم سيداً، ولكن لا توجد مؤشرات تدل على وجوده … لننظر إلى الجسد الإنساني بعظامه المئة وفتحاته التسعة وأجهزته الداخلية الستة، جميعها متكاملة وقائمة في أماكنها الصحيحة. هل أستطيع وضع أسبقية لواحدها على الآخر؟ هل أضعها كلها على قدم المساواة؟ هل كلها خدم لا تستطيع ضبط بعضها بعضاً؟ هل تتبادل دور السيد والخادم على التوالي؟ ألا ترى أن هنالك شيئاً جوهرياً موجوداً في صميم تكاملها؟ “
العلاقة بين المبدأ الكلي والبشر:
العلاقة بين البشر والله في الفكر الديني هي علاقة طقسية شعائرية. فلقد خلق الله البشر وسخر لهم الطبيعة وحيوانات الأرض من أجل معاشهم، وعليهم بالمقابل شكره الدائم على نِعَمه وتقديم فروض الطاعة والعبادة له، فهو السيد وهم عبيده. أما عند لاو تسو فإن نِعم المبدأ الكلي تفيض من خلال تلقائية كونية لا سيد فيها ولا مسود، والكل يعيش حالة وجود تَشَارُكي لا فضل فيه لأحد عناصره على الآخر. يقول المعلم في الفصل الثاني :
الآلاف المؤلفة تظهر وتختفي بلا توقف
ما يعطيها الحياة لا يدعي امتلاكاً
يُكمّل عمله ولا يدعي فضلاً
العمل يُنجز ثم يُنسى
ولذا فإن أثره لا يفنى
وفي الفصل 10 :
إنه يعطي الحياة ويغذي
يعطي الحياة ولا يدعي امتلاكاً
يغذي ولا يقتضي عرفاناً
يُدَبّر ولا يبسط سلطاناً
في الأخلاق :
في الفكر الديني تهبط الشرائع الأخلاقية من السماء، والإله هو الذي يبين للبشر طريق الخير وطريق الشر. وينجم عن ذلك أن الإنسان لا يتمتع بوازع خلقي أصلي، ولا يسلك في طريق الخير إلا امتثالاً للأمر الإلهي. أما عند لاو تسو فإن الفضيلة كامنة في صلب النظام الطبيعي للكون، وما على الإنسان إلا أن يضع نفسه في حالة تناغم تام مع هذا النظام لكي يتلمس الفضيلة في داخله دونما حاجة إلى تلقين، أو إلى اتباع لوائح أخلاقية مفروضة عليه من قوة عُلوية. وبهذه الطريقة فإن عمل الخير يأتي دون قصد وتصميم على إتيانه، وهو شكل من أشكال التلقائية أو “اللا فعل” بمصطلح لاو تسو . يقول المعلم في الفصل 38 :
رجل الفضيلة الكاملة لا يشعر بفضيلته
ولذا فإنه رجل فاضل
البعيد عن الفضيلة مشغول بها على الدوام
ولذا فإنه رجل غير فاضل
رجل الفضيلة لا يفعل
ومع ذلك لا يترك شيئاً بحاجة إلى إتمام
ويقول في الفصل 81 :
إذا اتبعْتَ طريق السماء
تبذل الحسنة لا السيئة
إذا اتبعْتَ طريق السماء
تبذل العمل ولا تقتضي عرفاناً
في الثواب والعقاب:
في الفكر الديني يتصل مفهوم الخير والشر والخيار بينهما بمفهوم الثواب والعقاب، فالله يعاقب فاعل الإثم ويثيب فاعل الخير. وبذلك تتحول الأخلاق إلى موضوع مقايضة بين الخالق وخلقه. أما عند لاو تسو فإن ثواب الخير يكمن في فعل الخير نفسه لا في مكافأة تترتب عليه، لأن هذا الفعل يجعل صاحبه في انسجام مع التلقائية الكونية الخيَّرة. إن التاوي يقوم بواجبه دون النظر إلى مردود، وهذا ما يأخذ بيده إلى النجاح دون أن يطلبه. يقول المعلم في الفصل 73 :
عندما تتَّبع طريق السماء
فإنك تربح دون نضال
تحصل على ما تريد دون سؤال
تحقق النجاح من غير أن تطلبه
ويقول في الفصل 79 :
طريق السماء حيادي
ولكنه يبقى إلى جانب الشخص الطيب .
والمعلم لا يقصد هنا إلى القول بأن التاو يقف بشكل قصدي إلى جانب الإنسان الطيب، بل إلى أن الشخص الطيب الذي يتماثل مع التلقائية الكونية يجدها دوماً إلى جانبه .
في الآخرة والحياة الثانية :
يتخذ مفهوم الآخرة والحياة الثانية مركز البؤرة من الفكر الديني، فالموت ليس إلا معبراً لحياة ثانية يقضيها المرء إما في نعيم دائم أو في عذاب مُقيم. أما لاو تسو، وعلى غرار الفكر الصيني العملي، فإنه لم يعط اهتماماً للمسائل الميتافيزيكية، وفي تركيزه على سبل الحياة الصحيحة في هذا العالم، لم يرسم صورة للعالم الآخر ولم يتحدث لا عن فناء الروح ولا عن خلودها. وما على الإنسان سوى أن يحيا حياة طبيعية خلال الفترة المُقدَّرة له في هذه الدنيا دون خوف من الموت أو تعلُّق بالحياة، ويترك ما عدا ذلك للتلقائية الكونية لكي تتكفل به.
يقول تشوانغ تزو في تفسير موقف معلمه من مسألة الحياة والموت وعالم الآخرة:
“الناس في الأيام الخوالي لم يعرفوا حب الحياة ولا كره الموت. الولوج إلى الحياة لم يكن بهجة لهم، والخروج منها لم يكن يثير فيهم جزعاً ومقاومة. بهدوء كانوا يأتون وبلا ضجيج كان يمضون. لا ينسون ما كانت عليه بداياتهم، ولا يتساءلون عما ستؤول إليه نهاياتهم. لقد قبلوا الحياة واغتبطوا بها، ثم نسوا وآلوا إلى حالة ما قبل الحياة. وبهذا لم يكن لديهم رغبة أو نية لمقاومة التاو، ولم يبذلوا جهداً لمعارضة طريق السماء”.
هذه المفاهيم الرئيسية في الفكر الديني التقليدي تنتظم في إيديولوجيات ثابتة تؤطِّر الحقيقة وتقدمها جاهزة للإنسان الذي يتوجب عليه الإيمان بها والاعتقاد بصحتها المطلقة والعمل بمقتضاها، وكل إيديولوجيا تدعي أنها وضعت يدها على المعارف العليا وأجابت على كل الأسئلة المتعلقة بها. أما في تاوية لاو تسو فإن الحقائق الكلية لا يمكن مقاربتها بالمناهج العقلية، ولذلك ما من أسئلة يمكن أن تُطرح بخصوصها وما من أجوبة. فالتاوي لا يهدف إلى إقامة علاقة معرفية مع العالم بل إلى علاقة اختبارية مباشرة بعيداً عن المفاهيم العقلية. وهذا ما يقصد إليه لاو تسو عندما يتحدث عن ” التعليم بدون كلمات “. وبهذا الخصوص يقول تشوانغ تزو تلميذ المعلم وشارحه :
” من يتصدى للإجابة على سؤال حول التاو لا يعرف التاو، لأنه ما من تساؤل ممكن حول التاو وما من أجوبة. التاو يُعرف بدون مفاهيم وبدون تفكُّر عقلي. يمكن مقاربته بالمكوث في الفراغ، باتباع لا شيء، بطلب لا شيء. الحكيم يُعلِّم مبدءاً لا يجد تعبيراً عنه بالكلمات. “
أخيراً، ليست هذه المقارنة سوى بذرة صغيرة في تربة الحوار بين حضارتين بقيتا، على تباعدهما و تجاهلهما لبعضهما، منارتين في ظلام العصور الوسطى الذي خيم قرونا على العالم بأكمله، و قد آن اليوم أوان التعارف في عالم ينحو حثيثا نحو التفاهم و التوحد.