علاء الدين عبد المولى – الناس نيوز ::

ولدتُ في بيت يحكمه أبي الشيخ الراديكالي بهاء الدين، الذي كانت مكتبته تضمّ مئات الكتب الدينية والفقهية من تفسير وحديث وفتاوى، ولكني حين كبرتُ كوّنتُ مكتبة فيها آلاف الكتب ومنها كتب ماركس وإنجلز وسبينوزا ونزار قباني! على أنني لم أكن متديّنا يوماً، ولا أصبحتُ شيوعياً يوماً.
أمي كانت أميّةً تقول عن الخميني شيوعي بدلا من شيعيّ، أما أبي الذي كانت بعض ملامحه تشبه الخميني فعلاً، فقد كان يكنّ كراهية عقائدية عميقة للخميني. في حين أن أخي الأكبر عبد الرحمن خطيب الجامع، فقد كان يبشر بثورة إسلامية تشبه ثورة الخميني!
ذلك البيت الذي ولدت فيه، في حيّ يقع بمدينة حمص القديمة التاريخية، وحمص تقع في قلب سوريا، إنها كما تعرف عاصمة النكتة السورية، لكن معظم ما أحمله الآن من ذكريات فيها هو محضُ ألمٍ وقهر وهوان.

إنه حيّ (الصفصافة) الذي سمي بهذا الاسم لأنه كان فيه قديماً صفصافة كبيرة، والصفصافة شجرة تتدلى أغصانها باتجاه الماء، وتعرف بأنها شجرة حزينة منطوية على داخلها، وكأنها طبعتني بطابعها وخلقتني على صورتها.
ما إن تخرج من حي الصفصافة وتتجه يميناً، حتى تصبح في حيّ آخر من أحياء المدينة القديمة يعرف باسم باب (الدُّريب) تصغيرا للدرب، وفي هذا الحيّ ولد المفكران السوريان الشهيران طيب تيزيني وبرهان غليون. أي أن البيت الذي ولدت فيه يبعد عن بيت كل منهما مئات الأمتار فقط. بل كنت يومياً أمرّ في طريق المدرسة قريباً من بيت أهل برهان غليون، وأمر كذلك على مكتبة تبيع الصحف والقرطاسية تعود ملكيتها للصحفي الحمصي القديم عبد الودود تيزيني، وهو شقيق طيب تيزيني. سوف يكون لذلك حديث مفصل فيما بعد.
تعرف المدن القديمة بأنها مدنٌ محافظةٌ، أبي لم يكن محافظاً وحسب، بل كان متشدداً جداً. وبحكم أبويته فقد سلك إخوتي الثلاثة الأكبر مني وبتأثير منه، طريقَ الشريعة والفقه وما يتعلق بهما.

كان الأخ الأكبر خريج كلية أصول الدعوة في جامعة الأزهر، بينما الاثنان وهما توأمٌ، كان آخر عهدي بهما أنهما طالبان في كلية الشريعة في جامعة دمشق سنة أولى. أمي هي الأخرى تنحدر من عائلة لها التركيبة المتدينة ذاتها، وإن كانت أقلّ تشدّداً نوعاً ما، وقد كانت تتباهى بأن والدها لقي وجه ربه وهو يقرأ القرآن، بحيث كانت تسرد علينا دائما أنهم وجدوه منحني الرأس على القرآن المفتوح أمامه.
لم يكن لأبي اهتمام بالسياسة، مع أنه من متابعي الأخبار طيلة وجوده في البيت، أخبار هيئة الإذاعة البريطانية من لندن، وإذاعة القاهرة. وما زالت في أذنيّ أصوات ساعة بيغ بن وأصوات مقرئي القرآن من الإذاعتين خاصة في شهر رمضان.
ومع انعدام الشأن السياسي بمعناه المعاصر من بيتنا، فقد كان هناك (اهتمام سرّيّ) بما يجري داخل سوريا في تلك المرحلة من قبل إخوتي. كنت يومئذ في الرابعة عشرة من عمري. كنت أسمع في بيتنا أسماء مروان حديد (القيادي في حزب الإخوان المسلمين)، وسعيد حوّى، ومحمد الحامد، ومصطفى السباعي، وكلهم من قادة الإخوان، بل إن مصطفى السباعي، ابن مدينتي، هو مؤسس الإخوان المسلمين في سوريا! سوف تكون زوجتي فيما بعد من آل السباعي، ولكن لا علاقة لذلك بالإخوان طبعاً.
في تلك المرحلة تعرفت على فنّ قراءة القرآن من جهة وفنّ الإنشاد الدينيّ أو القصائد النبوية، وكان لإخوتي اهتمامات بهذا الخصوص حيث كان بيتنا لا يهدأ من أصوات منشدين شباب يحرضون على الثورة في وجه الظالمين الذين لا يطبقون شريعة الله في الحياة، ويحضّون فئة الشباب على الصحوة والجهاد والشهادة أيضاً.

كان أخي إبراهيم يملك صوتاً جميلاً جداً، ربما ورث ذلك، كما ورثته أنا، عن أمي التي كانت ذات صوتٍ من سلالة أصوات أسمهان. أعمام أمّي مهتمون أيضا بالإنشاد الدينيّ، واحد منهم كان مؤذن جامع (الدالاتي) في وسط حمص، وكان رئيس فرقة إنشاد ديني معروفة في المدينة.
لكن أمي لم تكن تجرؤ على الغناء في حضور أبي، بل وكانت الموسيقى ممنوعة في بيتنا فهي حرام! لذلك كانت خيارات إخوتي الشباب من الإنشاد الدينيّ خالية من الآلات الموسيقية باستثناء المزهر والدفّ! فهما شرعيّان ومباحان. وحين اشتريت ذات يوم كاسيت للمنشد الشهير أديب الدايخ (من مدينة حلب شمال سوريا)، كان الكاسيت قصائد دينية، لكن الدايخ كان ينشدها برفقة الناي، يومئذ دخلت على إخوتي المشايخ فرحاً بأني أحضرت لهم شيئا يعجبهم، لكن سرعان ما صدمتُ ونبّهوني إلى عدم جواز ذلك، فالناي آلة موسيقية طربية.
كانت تلك المرة الأولى التي أسمع فيها تعبير (الموسيقى حرام). طبعاً فيما بعد سوف أصبح مدمناً يومياً على الموسيقى والغناء! كان المنشد السوريّ المفضل لأخي إبراهيم مثلاً هو توفيق المنجد، وكان أخي يقلد صوته إلى درجة التطابق المذهل بينهما.
أما أخي الأكبر فكان يجلب من القاهرة كاسيتات المنشد المصريّ الشهير نصر الدين طوبار. أما أنا فكنت أسمع من أولاد الجيران عن منشد من (حلب) اسمه حسن الحفار، الذي سيصبح بعد عشرات السنوات المفضّل موسيقياً لديّ هو وصباح فخري! لكن لم أكن أسمع به في بيتنا لأنه وبكل تأكيد كان يغنّي لأمّ كلثوم أحيانا!
لا أنسى جلسات الاستماع التي كان أبي وإخوتي يقيمونها حول كاسيت لحضرة صوفيّة أو جلسة ذكرٍ، ولا أنسى إجهاش أبي بالبكاء مرات وهو يسمع بعض القصائد الدينية الصوفية أو مدائح النبيّ.
بعد سنوات سوف يجهش أبي بالبكاء لأسباب أخرى، بل سوف يجهش بيتنا جميعه بكائناته وأشجاره وجدرانه وأزهاره وكتبه بالبكاء والتفجّع الدائمين.

إذاً كانت السياسة في بيتنا موجودة بطريقة مشبعة بالتصور الدينيّ الراديكاليّ، وفي هذا السياق كنت أسمع باسم الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي، ومع أنه شيخٌ وأستاذ في كلية الشريعة حيث يدرس أخواي التوأم إبراهيم وعبد الباري، لكنه لم يكن ينال احتراماً منهما ولا من أبي.
كان اسمه دائماً مقترناً لديهم بتعاونه مع النظام، ومع المخابرات! وكانت تلك اللحظة الأولى التي أعلم فيها بأن هناك مشايخ يقفون ضد النظام ومشايخ يقفون معه، بل ويتعاونون مع مخابراته! ألم يكن هذا شأنا سياسيّاً؟
السياسة في بيت أهلي كانت تجري بلا تسمية معلنة، ما كان معلنا هو فقط أن أبي وإخوتي المشايخ كانوا ضدّ حكم حافظ الأسد، في البداية وفي عمر الرابعة عشرة لم أكن أعرف السبب بصورة واضحة، لكن سوف أعرف وأعرف بعد سنة فقط، ثم بعد سنوات قليلة، لماذا كان على معظم السوريين أن يكونوا فعلا ضدّ نظام الأسد.