علاء الدين عبد المولى – الناس نيوز ::
سنوات مراهقتي المثقلة بالتعليمات والأوامر الدينية من الأب الشيخ، كانت تثير فيّ نزوعاً لا تفسير له في تلك المرحلة من عدم الوعي والنضوج، نزوعاً نحو رفض المنظومة الدينية والتمرد عليها سرّاً. لكني كنت لا أملك من قراري أي جانب، فالاعتراض والحوار ممنوعان في بيت أهلي. مع وجود فضولٍ هائل نحو القراءة التي لم أكن أجد ما يلبيها في مكتبة البيت سوى الكتب الدينية التي يفرضها الشيخ عليّ. من هنا كنت دائم (البحبشة) في مكتبة أبي ومكتبة إخوتي عن عناوين تختلف عن عناوين التراث القديم، وكان هذا سهل التمييز، خاصة أن إخوتي كانوا يتداولون أسماء معاصرة ولهم كتب كثيرة عندنا. من بينها اسم سيد قطب وأبو الأعلى المودودي وسعيد حوّى. وكل هذه أسماء أشهر من أن يتم التعريف بها فهي أقطاب ما يسمى الدعوة الإسلامية ونظرية الحاكمية لله وحده في الفكر الإسلامي. كان أشهر كتاب لسيد قطب هو (في ظلال القرآن) و(معالم في الطريق)! الكتاب الأول فوجئت فيما بعد وأثناء الدراسة الثانوية بأن بعض مدرّسي اللغة العربية من غير المسلمين كانوا يملكون نسخة من هذا الكتاب لما يرون فيه من جانب أدبيّ وبيانيّ ولغويّ بغضّ النظر عن محتواه الدينيّ. لكن الكتاب الآخر (معالم في الطريق) فقد كان المانشيت الأهمّ في تلك المرحلة لفكر الإخوان المسلمين، لا سيما أن قطب كان من أبرز منظري هذه الجماعة.
لكن ما لفت نظري فيما بعد وجود كتاب (الحكومة الإسلامية) لقائد الثورة الإسلامية في إيران آية الله الخميني! استغرابي من وجود الكتاب أنه لشخصية شيعية تعتبر عقائدياً مناقضة لنمط التفكر الإسلامي (السنيّ). لكن ذلك لم يمنع من أن يقرأ إخوتي هذا الكتاب. بل إن أخي الأكبر عبد الرحمن كان يبشر في خطب الجمعة التي كنت أحضر كثيراً منها، بثورة إسلامية على نمط ثورة الخميني! وكان يريد بالحرف الواحد أن يسيل الدم للركب في الشوارع! وكان يردد ذلك بصوت عالٍ وانفعاليّ كعادته في إلقاء الخطبة. بل وكان أحياناً يهوي بقبضة يده على خشبة المنبر من شدة انفعاله.
عبد الرحمن الذي درس في كلية أصول الدعوة في القاهرة، كان تلميذاً في هذه الناحية للشيخ الخطيب المفوّه المصري عبد الحميد كشك الذي كانت كاسيتاته تشبه سيمفونية مستمرة في بيتنا. حتى إنني كنت في تلك المرحلة أحفظ بعض خطبه عن ظهر غيب! كشك هذا تم اعتقاله لسنوات طويلة في مصر على الرغم من أنه شيخ ضريرٌ، لكنه يملك قوة تأثير شعبوية هائلة في الشارع الإسلامي العربيّ. كان أخي من أشدّ المعجبين به ومن مقلديه في أسلوب الخطابة.
أبي كان هو الآخر الخطيب الأبرز في بيتنا. فقد كان أبي خطيباً لجامع الشيخ سعد الواقع قريباً من حي باب السباع وحي الصفصافة في حمص القديمة (المدينة السورية). لكن أبي لم يكن يتطرق في خطبه لمواضيع ثورة إسلامية مباشرةً، على الرغم من أنه دائم الحديث عن ظلم الحاكم وخروجه على الشرع، ويستشهد دائما بنماذج إسلامية من التاريخ على فقهاء وعلماء دين يقفون في وجه (السلطان الجائر).
أخي إبراهيم كان خطيباً بين فترة وأخرى، والخطبة الشهيرة له كانت سبباً في اعتقاله الأول من قبل فرع أمن الدولة في مدينة حمص. فقد سمعت يومئذ من أشخاص صاروا يتداولون معلومات حول هذه الخطبة التي كانت مخصصة لانتقاد الرئيس السوري حافظ الأسد وثورة آذار! كان ذلك من باب ارتكاب المحرمات القصوى. فأن تصل بك الشجاعة الفائقة لانتقاد حافظ الأسد علناً، وأمام مئات المصلين، فهذا يعني أنك حملت روحك على كفك وذهبت بقدميك للموت!
لم يطل الأمر بأخي، الذي أدرك خطورة ما فعل، فصار يتخفّى عن البيت وينام في الجامع النوري الكبير في وسط المدينة، وهو الجامع الأساسي في المدينة إلى جانب جامع خالد بن الوليد. وكنت أذهب إليه كل عدة أيام لأنقل له أخبار البيت والحيّ وهل هناك دورية مخابرات جاءت للبيت؟ وإلى ما هنالك. لكن لا أدري ما هذه الطريقة التي كان يحتمي بها أخي إبراهيم؟ فقد تم استدعاء أبي مع أخي لزيارة فرع أمن الدولة، يومها عاد أبي من غير إبراهيم الذي بقي في الفرع للتحقيق والتأكد من وضعه.
كان إبراهيم شابّاً مندفعاً بشكل لا يوصف، حتى إنني لا أنسى طريقة مشيه في الشارع حين يمرق كسهمٍ سريع يكاد لا يُرى. كان يتعبني حين أمشي وراءه. اندفاعه تجلى في قضايا يعتبرها مثمرة ومفيدة، فهو كان يراسل أبرز علماء الحديث النبوي في عصره وهو الشيخ (عبد الله الصدّيق الغُماري) علاّمة الحديث في المغرب. والذي قام بزيارة إلى مصر نشط في أوساط الإخوان المسلمين فتمّ اعتقاله لسنوات طويلة. أتذكر أن هناك مراسلات لا تحصى بين هذا الشيخ وأخي إبراهيم، وكانت فرصة ذهبية لأخي حين قرر الغماري أن يزوره في البيت، فقد كان في تلك السنة في زيارة إلى سوريا. كان هذا طبعاً قبل اعتقال أخي، ولا أدري إن كان شيخه الغماري علم بشأن اعتقال تلميذه النجيب الذي كان قد وعده بإعطائه ما يسمى في الأوساط الإسلامية (إجازة) برواية الحديث! وقد بدأ أخي بالفعل بتصنيف كتبٍ وتحقيق كتب خاصة بعلم الحديث.
اعتقال أخي كان نذيراً خطيراً في البيت. حتى بدأ أبي يتعب صحياً ونفسياً. وكانت تلك اللحظة التي لا تمحى من الذاكرة، حين كنت أقف على باب البيت وأبي في غرفته مع مصلّين يقومون بصلاة المغرب جماعةً، وكانت تلك من المرات النادرة التي يصلي فيها أبي في البيت، لأنه كان مريضاً جداً. يومئذ شاهدتُ سيارة بيضاء من نوع (بيجو 504) تقف ببطء أمام باب بيتنا مباشرة ويترجل منها اثنان لا يخفيان المسدسات التي اشتهر بها رجال المخابرات في سوريا. شعرت بالخوف وانحلال القوى وقلت لنفسي سوف يكملون الاعتقالات في بيتنا. فاجأني واحد منهما بالسؤال: أين أبوك؟ قلت به بصوت مرتجف: في غرفته يصلي المغرب. وكان باب غرفة أبي مفتوحاً والحديث مسموعاً بوضوح. قال لي رجل المخابرات: قل له يلبس ويذهب معنا ليعود بأخيك إبراهيم من الفرع، فقد قررنا الإفراج عنه. يومئذ وللمرة الأولى في حياته يقطع أبي صلاته ويرتدي حذاءه بسرعة ويصعد معهم في السيارة ويعود بعد حوالي ساعة مع إبراهيم.
سوف أكتشف بعد أسابيع قليلة بأنها لعبة مدبّرة بين فرع أمن الدولة وفرع الأمن العسكريّ، فقد تم الإفراج عن إبراهيم مع تأكيد فرع أمن الدولة أن أخي لا غبار عليه ولا مشكلة معه.
الخطر سوف يأتي بعد أسابيع، لينال ليس فقط أخي إبراهيم، بل إخوتي الثلاثة…