علاء الدين عبد المولى ـ الناس نيوز:
الغرفة التي فرغت من أخوتي الثلاثة تحولت إلى قبر خاوٍ يتحرك فيه الصمت ببطءٍ وقسوة. مكتبة أخوتي المليئة بكتب مفكرين إسلاميين معاصرين، عرب ومن آسيا، مثل أبي الأعلى المودودي والشاعر محمد إقبال (وهما من الباكستان)، وسيد قطب وحسن البنا وأنور الجندي (من مصر)، وعدنان زرزور وسعيد حوّى ومصطفى السباعي (من سوريا). وعشرات الأعداد من مجلات إسلامية معظمها من مصر، منها ما توقف عن الصدور ومنها ما هو مستمرّ حتى الآن. أي أن أخوتي الإسلامويين ليسوا غارقين في كتب التراث الديني فقط، بل يواصلون الاطلاع على فكر من يسمونهم قادة الإصلاح أو السلفية وأسماء مختلفة.
سوف أنفرد مع الوقت أنا وهذه الكتب لأقرأ فيها بالتدريج وفي رأسي الأسئلة المقلقة: لماذا تم إعدام هذا المفكر الإسلامي؟ ولماذا تم اعتقال ذاك؟ الآن تلاميذهم ومنهم أخوتي أصبحوا معتقلين في سجون الأسد، وهي السجون التي لا يمكن لنا أن نسأل عنها ولا نقترب منها، فهي تشبه المحرمات التي ينبغي أن نهمس بأسمائها همسا.
صرنا نشهد عادات جديدة من تصرفات أبي الذي انكسر ظهره للأبد، فهذا الشيخ القاسي تحوّل بعد أن تسرّب أولاده من بين يديه، إلى كائن ضعيفٍ بكّاءٍ يغسل الدمع لحيته، ويعلو صوته بالنحيب وهو يدعو الله ويتضرع إليه ليرحمه ويهوّن عليه.
المشهد الذي ينعصر قلبي كلما استحضرته هو كيف كان أبي يقترب رويدا رويدا من مكتبة أخوتي الخشبية، ويقف إلى جانبها يتلمّسها ببطءٍ بأصابعه، يربّت على الكتب برفق وهو يبكي ويبكي ويئنّ بصوتٍ تنهدّ له الروح والجبال… ليس لأبي حيلة ولا لنا إلا البكاء. لقد بكينا عن دهرٍ أسود.
أمي صارت تغني (في غياب أبي طبعا) أغانيها الحزينة، كانت أغنيتها التي ترددها والدموع تتقطر من عينيها على ثيابها هي أغنية (برهوم) لنجاح سلام. ومع أن الأغنية عاطفية تتحدث عن حبيبٍ غائب، لكن هذا الحبيب الغائب صار هو إبراهيم أخي.
ذهب أبي وأمي في رحلة الدمع اليوميّ، نحن ليس لنا علاقات مع جهات متنفذة في أي مكان لنلجأ إليها لكي نعرف ما مصير أخوتي. ومن هو الشجاع البطل الذي يتجرأ على السؤال عن أولاده أو أخوته المعتقلين؟ بدأت هنا أحقد حقدا لا لون له ولا مدى ولا حدّ على نظام حافظ الأسد. حقداً صامتًا يأكل أعصابي ليلا نهارا.
وذات مساء ضاق بي الشوق إلى أخوتي… فرحت أكتب كلمات فيها تعبير عن حنيني إليهم. ولدت الكلماتُ تلك بقوافٍ وموسيقى، ثم بعد فترة اكتشفت أن ما كتبته كان قصيدة! لقد أصبحتُ في تلك اللحظة شاعرا… يؤسفني أنني لم أحتفظ بتلك الأبيات وأنني لا أحفظ منها سطرا وحدا.
ما أتذكره أنني عشت ساعة مع كلماتي في حالة وجدانية كئيبة باكية متكسرة، لأول مرة أعيشها وأختبرها. لقد ولدت أولى قصائدي مع الدموع والقهر والفقدان والخسارة، وذاك ما سوف يطبع معظم شعري حتى الآن.
الحقد الذي بدأ ينمو في داخلي لم يكن موقفًا حاسمًا متصفا بالحكمة، فكيف لمراهقٍ اعتقل أخوته في ليلة واحدة من قبل جهاز مخابرات عسكرية أن يكون حكيما؟ لهذا سوف يأخذ هذا الموقف مع السنوات التالية شكلا منهجيا عاقلاً، يزيحه عن نقطة (الحقد) ليصبح موقفا سياسيا فكريا أخلاقيا من نظامٍ يحرم الأهالي من أتفه حقوقهم في أن يكونوا معًا في الأعياد والأعراس والأسفار والمناسبات الاجتماعية، لمجرد أنه يمتعض من مواقفهم السياسية التي لم يكونوا مخطئين في جوهرها وإن التبست عليهم مراتٍ طرقُ التعبير عنها.
كنت أغلي بذلك الحقد كلما رأيت أبي يبكي ويرتعش صدره من البكاء، وأنا الذي أعرفه صلباً قويا ترتجّ الأرض تحته حين يتحرك. وكلما رأيت أمي تقوم من الصباح لتسقي عشرات الأزهار والأشجار والنباتات المنتشرة في حديقة بيتنا، وأسمعها تتكلم مع الأزهار والقطط، تشكو لها حظها العاثر وتبدأ بالنحيب والغناء لبرهوم ولعبد الوهاب وأسمهان.
لقد حرمنا حافظ الأسد من أن نستقبل الأعياد بصورة طبيعية، فصارت تكبيرات العيد صباحا تلفح روحي وتحرقني وتغرقني في الدموع وأنا تحت اللحاف. ريثما أقوم وأغتسل للذهاب مع أبي الشيخ لنصلي صلاة العيد في المسجد القريب من بيتنا.
كان أبي تدمع عيناه طيلة الطريق للمسجد، ثم تدمع عيناه وهو يستقبل المصلين الذين يهنئونه بالعيد، كنت وحدي من أرى عينيه تفتشان في الجموع البعيدة والقريبة عن وجه ولد من أولاده، وكنت أشاركه البحث المستحيل فيما خيالي يبدأ قصيدة جديدة لا فضاء فيها سوى الحزن والقهر والانسحاق.
كان أبي حين يصل في خطبة الجمعة أو خطبة العيد إلى فقرة الدعاء، يتعمد أن يدعو بعبارات واضحة الدلالة على الحاكم الفاسق الظالم الفاجر، وعبارات أخرى يصلي فيها لله أن يفرج عن كل مأسور ومعتقلٍ ويعيده إلى أهله سالما، وكان يخفي انفجار دموعه خلف كلماته تلك، لكني كنت وأنا جالس منحني الرأس في المسجد أترك الدموع تسيل من عينيّ على رسلها.
كان ذلك يحدث كل مرة، كل خطبة وكل عيد وكل اجتماع لأصدقاء أبي أو محبيه في بيتنا. كان ذلك الفتى المراهق ممزقا بين مأساةٍ عائليةٍ ولحظاتِ الكتابة التي فرح بها لأنها صارت تشكل له متنفسا وشرفة يطل منها على الحياة وإن كان ذلك بصورة شخصية.
لقد ظل يؤمن (حتى الآن) أن الكتابة جزء من خلاص فرديّ، لكنه كان في تلك المرحلة يحلم بخلاصٍ جماعي أيضا يحرر العائلة كلها من قهرها ومصابها.
أما كيف يتجسد هذا الخلاص الجماعيّ؟ فهذا ما سوف يتأمل فيه مع الوقت ويفكر، ومن خلاله سوف يربط مأساة عائلته بمأساة البلاد جميعها، ليعتقد أخيرا أن تحرير أسرةٍ سورية من قهرها وآلامها لن يكون إلا بتحرير البلاد كلها ممن خلق هذه الآلام الباهظة في كل بيت… .