علاء الدين عبد المولى ـ الناس نيوز ::
لم يكن إعدام إخوتي حدثًا استثنائيًا في معتقل سوريّ صار موقعًا أساسيًّا للقتل والتعذيب والإعدامات الأسبوعية، هدفها التخلص من قطاع واسع من المعارضة السورية. وإذا كانت الجهات الإسلامية قد حملت العبء الأكبر من هذا، حيث نكل بها النظام تنكيلًا غير مسبوق إلى حدّ ارتكاب المجازر المتعددة سواء في سجن تدمر الصحراوي أو في عدة مدن سورية، فإن ذلك يعود لأسباب مختلفة، ربما كان أوضحها من منظور النظام الأسديّ اتهام جماعة (الإخوان المسلمين) بتكديس السلاح وتهريبه لخوض صراع مسلح مع النظام للخلاص منه والانقلاب عليه.
لكن الوقائع التي تكشفت فيما بعد عبْر كتب وبحوث وشهادات كثيرة، أعطت المسألة منظورًا آخر نسف مقولة النظام الأحادية حول حربه الدموية ضد جماعة الإخوان. فقد شنّت أجهزة المخابرات السورية بكافة مسمياتها حربًا شعواء ليس فقط ضد الإخوان المسلمين فحسب بل المعارضة السورية برمّتها أيضًا. وظهر هذا جليًا عبر ما عُرف بحلّ نقاباتٍ سورية مثل نقابة المحامين والمعلمين والأطباء وغيرها من النقابات؛ لأنه قد ظهر فيها بوادر انشقاقات واعتراضات على تدخل أجهزة الأمن في مسارات عملها، خاصة نقابة المحامين والمجال القضائيّ.
لكن النظام أراد انتهاز وجود جماعة الإخوان لجعلها حصان طروادة لضرب كل شرائح المعارضة، حتى صارت تهمة (الإخونجي) هي التهمة الأخطر التي تقود صاحبها إلى ساحة الإعدام.
أتذكر في تلك المرحلة، حملة مستمرة ضد ما سمي (أوكار) الإخوان المسلمين في حمص. وكانت هذه (الأوكار) بطبيعة الحال عبارة عن بيوت ومنازل يسكن فيها أناس يملكونها أو يستأجرونها. وكانت الحملة تقتضي محاصرة الحيّ والمنطقة وسدّ مداخلها كليًا والهجوم على ذلك الوكر ثم اقتحامه بعد أن يرموا عليه مختلف أشكال القنابل والرصاص.
وقد يتم القبض على من في المنزل، ثم تأتي كاميرات الإعلام السوريّ الرسمي لالتقاط صور للأسلحة التي يزعم قادة الأجهزة الأمنية أنهم عثروا عليها داخل هذا الوكر.
كانت هذه اللعبة معروفة لإظهار (عصابة) الإخوان المسلمين على أنها عصابة تهدد أمن البلد، والمواطنين، والاقتصاد، والمؤسسات العامة. أما حين يكون هناك ضحايا، فيتم تصوير وجوههم المشوهة عمدًا لزرع الرعب في نفوس من يرى تلك الصورة التي لا تزال راسخة في أذهاننا، لنأخذ عِبرة ودرسًا حتى لا تسول لنا أنفسنا أن نُصنّف مواقفنا ضمن الجهة المضادة للنظام.
كنا نسمع بشكل أسبوعي تقريبًا وعلى مدار فترة طويلة، أصوات الرصاص والتفجيرات من الأحياء المجاورة مثل (حيّ باب الدريب، حيّ جبّ الجندلي، حيّ باب السباع…) فنعرف أن هناك حملة اقتحام لأحد هذه الأوكار.
خَلق هذا مُناخًا كئيبًا لدى المواطنين جميعهم، وانقلبت حياتنا -حتى الشخصية منها- إلى مجرد مشاهدين غير قادرين على الكلام ولا على السؤال حول ما يجري.
بدأت في تلك المرحلة مراقبتي لأنني الشاب الرابع بعد إخوتي الذكور الذين تم اعتقالهم. وكنت قد تجاوزت الثامنة عشرة من عمري، وأخذت أنشر قصائدي في جريدة العروبة، فيما كانت مشاركاتي الأولى عبر أمسيات شعرية ومسابقات داخل المدينة وخارجها.
هناك بدأ تداول اسمي كشاعر شاب جديدٍ، يحمل كنية (عبد المولى)، تلك الكنية المغضوب عليها، فيما شباب من أقاربي قد تم اعتقالهم. فظهر التساؤل؛ مِن أين لهذا الشاب المشبوه أن يصبح شاعرًا يقف على منابر المدينة، وينشر في جريدتها، ويفوز في مسابقاتها التي كان ينظمها اتحاد الكتاب واتحاد الشبيبة؟
كنتُ أعرف أنني مراقبٌ بسبب توقيفي الدائم من دوريات الأمن المنتشرة في الشوارع كالجراد في تلك المرحلة، وعبر أسلوب تعامل عناصر الدورية معي من صفعٍ وضربٍ وركلٍ وإهانات على مرأى ومسمع الناس المارين في الشارع، وأحيانًا حين كنت أركب دراجتي العادية، وأضع خلفي مجلة أو جريدة أو كتابًا، فينبغي عندها أن يفتشوا ما بحوزتي إذ كنت بدأت حينها أتابع مجلة (المستقبل)، و (الكفاح العربي)، و (العربي) على سبيل المثال.
وباعتبار كلها مجلات مضمونة وتدخل للقطر بشكل نظاميّ، فلم يكن فيها ما يثير الشبهات، ومع ذلك وأكثر من مرة، يمسك بعض العناصر مجلة ما ويمزقها ويرميها في وجهي بعنف وهو يركز عينيه في عينيّ تحديًا وترهيبًا.
ذات يومٍ، كنت أقود دراجتي بصعوبة بالغة، وأميل على الجانبين لأنني كنت مصابًا بحالة “كريب” حاد، يومئذ أوقفتني الدورية كالعادة في مدخل حارتنا، وكانت طريقة الإيقاف هذه المرة بأن هجم أحدهم على مقودِ الدراجة ولكمه بقبضته القوية فرماني أرضًا.
وفي يوم آخر، كنت عائدًا للبيت ومعي كتابٌ لنزار قباني، وفيه خبأت رسالةً (عاطفية) من صبية تعرفت عليها في تلك الآونة، أمسك عنصر الدورية الكتاب وقرأ اسم نزار قباني بصوت مسموع، وانتبه للرسالة داخله فأخرجها من ظرفها المختوم وفتحها وقرأ ما فيها خلال دقائق ونظر فيّ ساخراً قائلًا: “صرت تعشق يا عر(…) وناولني تلك الشتيمة السوقية. وكررها صرت تعشق يا عرصة يا ابن المشايخ؟
ولعل أسوأ مشهد لي مع دورية أمنٍ تلك الساعة التي ما زالت تحفر في قلبي قهرًا نازفًا، حين واجهت دورية في مطلع حيّ اسمه (الورشة)، وعرفتها عبر وجوه عناصرها المكررة في أكثر من مكان، حيث طالبني أحدهم بهويتي كالعادة، وما إن قرأ اسمي واسم أمي صرخ في وجهي شاتمًا لاعنًا بقوله : “ما قلت لك يا… أن اسم أمك مكتوب بطريقة غلط؟ لماذا لا تذهب وتصححه؟”. أخذ عنصر ثان هويتي وقرأ اسمي، وفجأة انهال عليّ بالركلات، والصفعات، والضربات على وجهي، ورأسي، وبطني، ورماني أرضًا، وصار يدعسني بقدميه بشراسة… ثم استعمل جهاز اللاسلكي لينادي سيارة كانت تحوم في المكان ورموني داخلها وانطَلقت، وأنا أغوص في رعبٍ لا أنساه ما حييت.
قلت لنفسي: الآن جاء دورك يا علاء. لن تعود للحياة مرة ثانية. ها قد تم اعتقالك وقضي الأمر.
لا أدري كيف وصلت سيارة بيضاء من نوع (بيجو 504) وتوقفت لينزلني عنصران يمسكان بيديّ من أطرافي، ليستلمني عنصر آخر، يبدو أنه كان مسؤولًا على مدخل المبنى الذي لا أعرف ما هو.
أمرني هذا الشخص أن أمشي وراءه دون أن يلمسني. وصل إلى باب غرفة، طرقه بهدوء لمرتين، وانتظر ليسمح الصوت القادم من الداخل بأن يفتح الباب.
فتح الباب برفق، وأمرني أن أدخل. واجهني شخصٌ من وراء طاولة كانت عليها قطعة معدنية (أو خشبية لم أعد أتذكر) مكتوب عليها: المقدم مصطفى أيوب، فارتعبتُ وارتجفت ركبي، لأن مصطفى أيوب هو رئيس فرع أمن الدولة في مدينة حمص، الذي اعتقل أخي إبراهيم اعتقاله الأول ثم أفرج عنه.
شعرت كأني مغيّبٌ ولا أدري ما يجري حولي ولا معي. ولا أعرف كيف نطق أمامي اسم إبراهيم، ولا أتذكر لماذا وفي أي سياق جاء ذكر اسمه، لكني أتذكر أنه طلب مني أن أذهب إلى السجلّ المدنيّ لتغيير اسم أمي وكتابته بشكل سليم، ثم نادى على عنصر في الخارج وقال له: “اتركه ينصرف ما في مشكلة الآن”.
كان قد مضى على الحادثة حوالي ساعتين أو أكثر، ولا أعرف كيف وصلت إلى بيت أهلي منهارًا مرتجفًا، لأجد أهلي بانتظاري فقد عرفوا من سكان حيّ الورشة بما جرى لي، إذ كان الرعب يخيم عليهم أيضًا.
وفيما كانت رائحة الياسمين تعبق الدار، والليل بدأ يعم الأجواء، بدأت أخبرهم بما جرى بصوت متلعثم وأيدٍ ترتجف، فيما الليل الذي في داخلي ينتشر ويمتدّ أكثر خوفًا وقهرًا…