د . منير شحود – الناس نيوز ::
اللوحة الرئيسية للفنان السوري وضاح السيد وتمثل المعاناة … السورية .
على أعتاب الثلاثينيات ، كنت مصراً على العودة إلى بلدٍ حلمت في أن أساهم في تطوره وازدهاره، ولم يكن قد قرر أبناؤه الهجرة إلى أي مكان وبأية وسيلة، ولو على ظهر سمك القرش.
كنت أحث الخطى إليه، مع أن صوتاً غامضاً كان يتوسل لي بألا أفعل، ولم آبه له بعناد، كنت أريد العودة إلى بلدي لأردّ الجميل لأهله الذين ساعدوني في الوصول إلى ما حققته، وكنت أعرف أن فقراءه هم من يدفعون الثمن في نهاية المطاف، وعليّ ألا أشارك في استغلالهم.
وحين فُتح باب الطائرة، شممت رائحة تراب آتية من بعيد، رائحة ألفتها واشتقتها، لكن الوقت كان أقصر من أن يسمح لي بالاستغراق في أوهامي، فثمة من ينده باسمي خارج الباب. أمرني الشاب المزهو بنفسه، لسبب غير معروف، بأن أتبعه، بعد أن التقط جواز سفري، طالباً مني، بذات النغمة الواثقة، أن أنتظر قرب عمود دائري وسط قاعة فسيحة في المطار.
وضعت حقيبة “السامسونايت” الثقيلة بما تحمله من وثائق رسمية على الأرض، وشعرت برغبة عارمة في أن أجلس قربها وأتخلّص من محتوياتها، وقد صارت عبئاً وبلا معنى في تلك اللحظة، كأنّ ثلاثين سنة من “سهر الليالي” طواها الزمن إلى غير رجعة، فما الذي سأفعله بهذه الشهادات والإنجازات التي تحولت فجأة إلى مجرد أوراق، وددت لو تنثرها الرياح في صحراء قاحلة لا تحتفي حتى بوردة.
انتظرت قرابة الساعة، إلى أن عاد الشاب من جديد وقادني إلى…. ما حدث بعد ذلك يمكن أن تقصَّه على أي شخص إلا السوري، الذي يحفظ عن ظهر قلب مساراته الموحشة، ويورثها كحكايات صامتة لأبنائه من بعده!
وبعد أن دارت الأيام على مضض، ها أنا الآن أجلس على كرسي الاعتراف، وأقرُّ بأنني بالغت في التعويل على أمل مزيّف، وكان بوسعي خدمة بلدي أكثر من خارج سطوة حكامه. ولم أتجاهل خلاصي الفردي وحسب، بل كذبت أيضاً على نفسي وعلى الآخرين مرات، فمن سيفهم قصدي وعنادي؟ كنت قد ربطت نفسي، وبكامل إرادتي، إلى مركب لا بد أنه سيغرق على شاطئ موحل، على الرغم من كل مظاهر الزينة المخادعة التي يكتسي بها ويزهو.
مع ذلك، لست نادماً على التعلق بذاك الأمل الشحيح إلى الدرجة التي يتخيلها القارئ، فقد استمتعت بتأدية دور شاهدٍ على تلك الأيام، التي ما تزال مستمرة بحكم العطالة لا بقوة الحياة، حيث انصهرت لعنات الماضي ومآسي الحاضر لتشكل هذه اللوحة البائسة من الدمار والضياع.
وحين شرعت الرياح باقتلاع جذور من نجا منا، على أمل أن يحط على شاطئ ما يرأف بحاله، كان كل راحلٍ يحمل معه قطعة من قلبي ويغيب، فقدر بعض القلوب أن تتسمّر منتظرةً على حافة الوداع، أن تبكي الراحلين بصمت، أن تبسط شغافها ليستريح عليه عابر ما في رحلته الأخيرة، وهو يبكي خراب روحه.
ما الذي يفكّر به أبناؤنا وهم يحاولون الإفلات من أناملنا المرتجفة؟ الإجابة عصية على فهم جيلنا، ونحن لن نعرف أبداً بماذا يفكرون ويشعرون، ولا تلك المساحة المتاحة لهم ليعيشوا في غبطة الحياة وأفراحها العابرة، متمسكين بآمالهم الهاربة، آملين أن تشفق الحياة عليهم وترأف. وكل ما بوسعنا فعله، أو ما يجب علينا القيام به، هو إفلات أطراف الخيوط التي نشدهم بها إلينا، ليبتعدوا سريعاً عن هذا السيل الذي يغمر ما بقي منّا وما تبقى لنا.
ولا مهرب من تأنيب ضمائرنا، فنحن شركاء في جريمة ولو لم نقترفها، وستتعفن أرواحنا في ما بقي لها من حياة مضمَّخة بالذل الذي عشناه وعايشناه، وسلمنا به طائعين، وورثناه لأبناءٍ لا طاقة لهم بحمله، فهربوا وما يزالون يهربون إلى جنان الأرض وسعيرها، وقدرهم أن يعتصروا الحياة علّها تروي بعض ظمأهم إلى كل ما فات وضاع.
ويبقى الإذلال الأقصى من نصيبنا، نصيب من دجنوا حبوب القمح قبل آلاف السنين ليجدوا أنفسهم الآن وهم يتسولون رغيف خبز غريب الطعم والنكهة، واقفين في طوابير لالتقاط فتاتٍ ينثره تجار الحروب والأوطان، ليقتاتوا به، وقد نسيت الأجساد كيف تحيا من كثرة الوهن، واختفى البريق في العيون.
هذا الذل ليس جديداً، ولكنه كان متوقفاً على حافة الغرائز، ورضينا به من أجل أن نعيش وحسب، حتى داهمنا الموت البطيء بكل قساوته ووقاحته. وستبقى ضمائرنا تبكي حين تتعب العيون، فكيف لم نهرب قبل فوات الأوان، أو كيف لم نهرب بمن أنجبناهم قبل أن يدركوا فداحة المأساة؟ وكم كنا واهمين حين اعتقدنا بأن الخوف منجاة، والذل سلامة، ونبض القلب أمان!
مع ذلك، لا تكفي هجرتنا في الجغرافية لتحسين واقع الحال والخروج من بين الركام، وما نزال بحاجة لأن نهاجر في تلافيف العقول لنصيغ حياتنا من جديد، بعيداً عن تجار البشر في الأرض والسماء، ومقولاتهم المهترئة التي صدقناها طوال تاريخنا، وما زالوا يمطروننا بها في حاضرنا. هذه الأكاذيب هي ما يجب علينا هجرها لنفتح نوافذنا على الحياة. هنا، في العقول، تبدأ الثورة وتنتصر، وعلى نار هادئة تحدث التحولات الاجتماعية العميقة، وقد جربنا كل ما هو آني وسريع بلا جدوى، وبأثمان ولا أفدح.