د . ممدوح حمادة – الناس نيوز :
الذواقة هو المنصب الوحيد الذي لا يتطلب جهدا، بل على العكس يمكن اعتباره نوعا من الراحة، فكل ما يتطلبه العمل في هذه المهنة هو مشاركة السيد الرئيس طعامه، الشرف الذي لا يحصل عليه بشكل يومي ثلاث مرات على الأقل، سوى الذواقة، إضافة إلى أن هذه المهنة كانت توفر فحصا طبيا يوميا للشخص الذي يمارسها، فبعد كل وجبة يخضع الذواقة لفحص طبي دقيق، وأي تغير يطرأ على صحته، مهما كان طفيفا، يجعل الفريق الطبي لسيادته يقوم بفحصه وعلاجه بشكل يجعل المرض يندم لأنه تسلل إلى جسمه.
لهذا فقد كان العمل في هذه المهنة حلما يطمح في الوصول إليه جميع أفراد الحاشية السفلى لسيادة الرئيس، وكانت تحدث الكثير من المؤامرات لكي يتمكن بعض أفراد الحاشية من تحقيق هذا الحلم.
لم يكن أحدهم أبدا يخشى أن يدس شخص ما السم في طعام سيادته، فطباخه كان رجلا موثوقا تعرض لألف امتحان في إخلاصه قبل أن يحصل على هذا الشرف، إضافة إلى ذلك فقد كانت عشرات العيون تراقب كل حركة يقوم بها منذ أن يستيقظ إلى أن ينام، وحتى لو أراد دس السم فلن يجد وسيلة لإيصاله إلى المطبخ، وأي شخص آخر يفكر في ذلك فإنه يعرف سلفاً أن الأمر سينكشف عند الذواقة، قبل وصول السم إلى السيد الرئيس، وأنهم سيجرون تحقيقا لن ينتهي قبل كشف الفاعل، وعندما يصلون إلى ذلك الفاعل فإنه سيسحق كصرصار تحت نعل، لهذا فقد كان الذواقة يأكلون دون أدنى قلق.
يجتمعون كل يوم في غرفة الطعام قبل ساعتين من مواعيد وجبات الرئيس، وفي ذلك اليوم كما في كل الأيام، كان الذواقة الخمسة في الساعة الثانية عشر تماما يجلسون كل مكانه خلف الطاولة المخصصة لذلك.
أشار قائد الحرس الرئاسي بيده للخدم فأحضروا رغيفا من الخبز قطع نصفه إلى خمس قطع وترك نصفه الآخر قطعة سادسة وضعت على صينية من الذهب، وضعت أمام كل من الذواقة قطعة من القطع الخمس ثم أشار لهم قائد الحرس فتناول كل منهم قطعته، بعد ذلك انتظر قائد الحرس ربع ساعة ثم رفع يده في إشارة أخرى دخلت بعدها مجموعة من الأطباء قاموا بفحص عيون الذواقة الخمسة وحلوقهم وقاسوا لهم الضغط ثم أخذوا عينة من دم كل منهم وأبلغوا قائد الحرس أن الفحص الأولي لا يشير إلى أي مشكلة في الخبز ثم أشار لهم قائد الحرس فانصرفوا، بعد ذلك رفع يده مرة أخرى فدخل الخدم يحملون ست قطع من اللحم وزعت خمس منها على الذواقة ووضعت السادسة في صحن ذهبي على الصينية الذهبية، تناول الذواقة اللحم ، وبعد ربع ساعة أعطى قائد الحرس الرئاسي إشارته المعهودة فدخل الأطباء وقاموا بنفس الإجراءات، وتكرر ذلك مع الشراب وبقية الأطعمة التي تتكون منها وجبة سيادته، ثم انصرف الذواقة إلى غرفة مخصصة لهم وجلسوا ينتظرون النتيجة.
في الساعة الثانية أحضر رئيس الأطباء تقريره الذي يحمل نتائج تحاليل المخبر فاطلع قائد الحرس الرئاسي عليه وطلب من رئيس الأطباء توقيعه فوقعه الطبيب، ثم طواه قائد الحرس ووضعه في جيبه ودفع عربة الطعام باتجاه غرفة السيد الرئيس.
كان سيادته جالسا خلف الطاولة يفكر في أمر ما عندما كان قائد الحرس يوزع الأطباق أمامه، وعندما انتهى تراجع إلى الخلف وأعلن بصوت رقيق:
- الطعام جاهز سيدي الرئيس.
ألقى سيادته إلى قائد الحرس نظرة لم يدرك الأخير فحواها، ولكن تهيأ له أن الرئيس يشعر بالقرف لأمر ما،غير أنه شد نفسه ووقف باستعداد وحنى رأسه في حركة سريعة كما يفعل دائما عندما ينظر السيد الرئيس إليه.
عاد الرئيس بعينيه نحو الطعام وأخذ يحدق فيه ثم أمسك بشوكة الطعام وغرزها في اللحم وأمسك بالسكين ووضعها على اللحم أيضا ولكنه لم يقطعه، تابع التحديق في الطعام بعينين فيهما تعبير يراه قائد الحرس الرئاسي للمرة الأولى.
غرق السيد الرئيس في تفكير عميق استمر عدة دقائق قبل أن ينتفض فجأة ويرمي بالسكين جانباً ويضع يده اليمنى على يسار الأطباق الذهبية ويدفعها بعنف مبعثراً إياها على الأرض، وصرخ: - مللت..
ثم نظر إلى قائد الحرس نظرة حزينة أثارت شفقة قائد الحرس وكرر: - مللت..
كانت نظرة يراها قائد الحرس للمرة الأولى، رأى في عيني الرئيس الغضب، ورأى الحقد والنشوة والفرح وكل المشاعر الأخرى، أما الألم والحزن فإنه يراه في عيني سيادته للمرة الأولى. - عفوك يا سيدي.. عفوك.. سنأمر الطباخ بتجهيز وجبة أخرى في الحال.
- مللت الطعام.. مللت كل شيء.. كل شيء..
تابع الرئيس بنفس الصوت الحزين ، ثم دفن رأسه في راحتيه وأخذ يبكي.
وبعد قليل رفع رأسه والتفت نحو قائد الحرس نظرة رأى فيها قائد الحرس الجنون : - أحضر لي سماً.. أريد أن أنتحر.
صعق قائد الحرس لهذا الطلب وشد جسمه وأخذ وضعية الاستعداد كما هي العادة وفكر في نفسه: ( إنه يختبر إخلاصي) ، ولكنه لم يدر ما عليه فعله ونطق بصعوبة بالغة: - فدتك روحي يا سيدي.. ننتحر جميعا دون شعرة من رأسك.
ضرب الرئيس بيده على الطاولة وقال كاتما غضبه: - أريد.. سماً.. لكي أنتحر.. ولا أريد أن أسمع أي كلام آخر..
ثم نظر إلى قائد الحرس وتابع: - هل فهمت؟
قائد الحرس شد جسمه من جديد وقال بحماس وهو لا يزال يظن أن الرئيس يختبر إخلاصه: - اسمحوا لي أن لا أنفذ هذا الأمر يا سيدي.
ثم شد جسمه وحسّن وضعية الاستعداد، بينما نهض الرئيس غاضبا وصفعه صفعة قوية جعلت قائد الحرس يرتد إلى الخلف وقد كاد يفقد توازنه، بينما اقترب منه الرئيس وأخذ يصرخ في وجهه: - مللت تملقك.. مللت كذبك.. مللت رؤية سحنتك هذه كل صباح.. أحضر لي السم في الحال.. أريد أن أنتحر.
أي أحمق كان يمكنه أن يشعر بالصدق في كلام سيادته، ولكن قائد الحرس كان لا يزال يعتقد أن سيادة الرئيس يختبر إخلاصه فصاح بحماس: - لن أنفذ هذا الأمر حتى لو حكمتم علي بالإعدام.
لم يحتمل الرئيس هذا التمرد من شخص مهمته تنفيذ الأوامر فانهال عليه صفعاً حتى أسقطه أرضاً ثم بدأ بركله بدون رحمة صارخاً: - منذ متى تناقش أوامري أيها الوغد.. أحضر السم في الحال.
فهم قائد الحرس بعد أن فهمت الجدران أن الرئيس صادق فيما يقول فزحف باتجاه الباب وهو يردد: - أمركم مطاع يا سيدي.. سيكون السم عندكم بعد لحظات.
الذواقة الخمسة كانوا يلعبون الورق في غرفتهم عندما دخل أحد الحراس وأبلغهم أن قائد الحرس يطلبهم بشكل عاجل، وهو أمر معتاد عندما يزور السيد الرئيس ضيف مهم، حيث يقومون بتذوق الطعام والشراب قبل تقديمه لهذا الضيف.
في غرفة الطعام كان قائد الحرس قد وضع قطرة من خمسة أنواع فعالة من السم في خمسة كؤوس عصير، فكما هو مسؤول عن تأمين حياة هانئة للسيد الرئيس، كان مسؤولا عن تأمين ميتة هانئة له أيضا، لذلك كان عليه أن يختبر السم الأكثر فاعلية الذي يؤدي إلى موت فوري ولا يتسبب بأي معاناة.
دخل الذواقة الخمسة والسرور بادٍ على وجوههم وجلس كل منهم في مكانه المحدد في انتظار الإشارة المعهودة التي تلقوها في الحال، شرب كل كأسه فسقط أحدهم قبل أن يصل العصير إلى معدته، بينما أخذ الآخرون يتلوون، وكان هذا كافيا لمعرفة السم المطلوب للموت الرئاسي، فوضع منه قطرة في الكأس وحمل الصينية الذهبية وتوجه إلى غرفة السيد الرئيس.
عندما فتح قائد الحرس الرئاسي الباب شاهد فتاةً كاعباً تجلس على ركبتيه وتطوق عنقه وتقبل صدغه، بينما كان سيادته قد أغمض عينيه وارتسمت على وجهه ملامح اللذة، أدرك قائد الحرس أن مزاج الرئيس قد تعدل وأنه لم يعد بحاجة للسم، فانسحب بهدوء قبل أن يشعر سيادته بدخوله فيجبره على تناول ذلك العصير، وأغلق خلفه الباب بهدوء.
في غرفة طعام الذواقة وضع قائد الحرس الرئاسي الصينية الذهبية على الطاولة، ثم تناول كأس العصير وسكبه في المغسلة وفتح صنبور المياه لطرد السم إلى البواليع وأمر أحد مساعديه أن يختار له خمسة من أفراد الحاشية للعمل كذواقة جدد لطعام السيد الرئيس، ولم ينس تنبيهه بأن يتأكد من إخلاصهم.
بينما كان باقي أفراد الحراسة يجرّون خمس جثث هامدة إلى خارج الغرفة، ولاحظ الناس في ذلك اليوم نفوق الكثير من الجرذان التي حاولت قبل أن تموت الهرب من مجارير المدينة.