أنور عمران – الناس نيوز ::
أعزائي القراء : هل تعرفون راديو الترانزستور؟
إذا كنتم لا تعرفونه ، فاستمعوا قليلاً إلى ما يتذكّره آباؤكم عن أيامٍ تخالونها أنتم وجيلكم محض حكايات أو أساطير، أما إذا كنتم تعرفون فأرجوكم لا تصدقوا كل شيء، أنتم تعرفون أنني مثلكم ، أحياناً أرشُّ بعض السُّكَّر على الآلام.
المشهد الأول: ليلي خارجي
سطحُ بيتٍ ريفي صغير من طابق واحد، ظلامٌ يتخلله ضوء بعض النجوم، طفل يتمدّد بجانب أبيه على الفراش، بردٌ خفيف، ولذلك نجد أن الأب بين فينة وأخرى يتأكّد من وجود الغطاء الخفيف فوق جسد الطفل، الأب يحمل بيده راديو ترانزستور صغير، يقلّب بين المحطّات، ويستقرّ على أغنية نصري شمس الدين: “وين بدك وين نتلاقى يا وش ال كلو براءة…”
في الغرفة التي كنت أنام فيها مع إخوتي، وفي أعلى الجدار الشمالي بالضبط توجد فتحة صغيرة “طاقة”، نستعملها في الشتاء من أجل تركيب المدفأة، أما في الصيف فقد كنّا نسدُّها كيفما اتفق، بأكياس ورقية أو بملابس قديمة أو بما تيسّر.
حين وصل نصري بأغنيته إلى: “كل العشاق بيناموا وأنا سهران ع الطاقة”
تخيلتُ أن غرفته تشبه غرفتي، وحزنت بشدة، عليه أن يقف على رؤوس أصابعه طوال الليل، أن يسهر وينظر من الطاقة إلى حبيبته التي تنام نوماً هانئاً، الحبّ إذن يسبب كل هذا التعب والحزن!
المشهد الثاني: ليلي خارجي
ليلة صيفية، أرضٌ زراعية خارج القرية، طفلان يحاولان أن يجرّا الماء من الساقية، عبر قناة صغيرة إلى أحد الحقول، بعد أن ينجحا، يجلب أحدهما “صرّة الطعام”، ويبحث في الراديو الصغير عن أغنية ما، فتكون الأغنية: ” يا بو ردين يابو ردانة”…، تعلّمت حينها من الأغنية أن الحب من وجهة نظر “دياب مشهور” وعلى عكس ما يريد نصري، يعني ألا يحزن أحد.
هل أكتب المزيد من المشاهد؟ لا أظن، فالمشاهد لن تنتهي…!
منذ زمن بعيد، قبل أن تستعمرنا التكنولوجيا، وقبل أن يسير البشر في الشوارع وكأنهم مشدودون وملفوفون بالأسلاك والإشارات والذبذبات، كان الراديو الصغير رفيق النزهات، رمز الشباب والحيوية، أجمل هدية يتبادلها العشاق، وكلمة السرّ السحرية تحت نوافذ الحبيبات، ولعبة الحظّ التي لا تنتهي.
فكرة إحدى الألعاب كانت أن نختار شخصاً من السهرانين، ونقرّر أن الأغنية القادمة تمثل حظّه، وبالطبع سيتحوّل إلى موضوع طريف في السهرة في حال كانت الأغنية تتحدّث عن الحب، مع العلم أن كل الأغاني تتحدّث عن الحب!
لم أحصل على راديو ترانزستور خاص بي، بالطبع كان هناك واحد في كل منزل، ولكن كان يجب أن أقتني واحداً يخصّني، أن أصنع له بيتاً جلدياً بلونٍ أحبه، أن تعرف حبيبتي الصغيرة أنني من أصحاب الأملاك والأوقاف، وأن أستطيع أن أقترح حظّها سرّاً في السهرات، ولأنني لم أفعل حينها، أكتب الآن عن خسارتي وحنيني.
شيء آخر أفتقده كثيراً، غاب مع غياب الترانزستور الصغير، أعني المسلسلات الإذاعية، تلك الفكرة الرائعة والمُجهدة، والتي تتطلب من الممثل، ومن خلال صوته فقط، أن يخلق دراما كاملة، أن يُعيد إلى اللغة مجدها المقدّس والحقيقي، وأذكر هنا
أنني كنت في السابعة تقريباً، وكان من عادة إذاعة دمشق أن تقدّم مسلسلاً إذاعياً في الساعة الخامسة مساءً، حينها كان عنوانه “ليالي سمرقند”، لم يكن يعنيني المسلسل ولا أعرف أي شيء عن أحداثه، ولكن كل يوم، وفي تمام الساعة الخامسة، ومهما كانت اللعبة ممتعةً في الخارج، يجب أن أكون موجوداً بجانب المذياع، لأسمع “ثراء دبسي” وهي تقول بصوتها الساحر “ليالي سمرقند”، وهذا كل ما كنت أريده، كنت أكتفي بالشارة فقط، كلمة “سمرقند” بموسيقاها المذهلة، بالتجاور المدهش والغريب بين حروفها، كانت على ما أظن مفتاحي الأول إلى عشق اللغة.