الناس نيوز: حاورتها في دمشق سوزان المحمود
ما بين الفن الأكثر تجريدا، الموسيقا، إلى الفن ذي الخط الواحد الحازم الرسم بالحبر الصيني الذي يعنى بالتفاصيل الدقيقة، إلى الألوان المائية الرقيقة، ثم إلى الفن الأكثر حسيّة ،النحت، حيث يُعجن الصلصال ويُشكل كان عليها أن تخلق شخصياتها وتحمّلها فلسفة موضوعاتها الخاصة، هنا حيث الوجوه والأيدي تحمل طاقة تعبيرية هائلة بساطة في تضاريس المنحوتة لكن قوة في التعبير والمضمون تجعل الصلصال يتحدث برفق، لكنه الرفق المؤثر العذب الأقرب الى المناجاة، ثم التصوير الضوئي الذي استعانت به بمهارة لتلتقط صوراً بالأبيض والأسود فقط لتفاصيل من منحوتاتها لتعطيها بعداً جمالياً وتعبيرياً آخر، إلى ممارسة أحد الفنون والمهن الدمشقية القديمة المفتونة بالألوان النابضة بالحياة، ألا وهي “العجمي”، تسترسل روحها وتقنياتها بالتجريب. إنها السيدة رانيا معصراني خريجة المعهد العالي للموسيقا وعضو مؤسس وعازفة كمان في الفرقة الوطنية السيمفونية السورية حائزة على الميدالية الفضية سنة 2011 من الجمعية الأكاديمية الفرنسية للفنون والعلوم والآداب. قامت بالعديد من المعارض الفردية والجماعية.
إلى أي درجة أثرت البيئة الدمشقية في تكوينك فنياً ، وهل من الممكن هنا الحديث عن البدايات؟ وأيهما الأسبق في تكوينك الموسيقا أم الفن التشكيلي؟
بدأت بدراسة الموسيقا منذ الصغر بعمر الست سنوات بالمعهد العربي للموسيقا ( معهد صلحي الوادي). وكنت في ذلك الحين أرسم رسومات بقلم الرصاص و بقلم الحبر. كنت أحس أني استمتع بالرسم وأقضي أوقاتاً فيه. بالنسبة لي الموسيقا والرسم تزامنا مع بعضهما. بعدها طورت رسمي وأصبحت أرسم بالحبر الصيني رسومات بالأبيض والأسود. وفي فترة لاحقة أدخلت الألوان المائية إلى الحبر الصيني. أحب أن أمشي في الحارات الدمشقية وألتقط الصور وأستوحي منها في الرسم. أسترد روحي ويشد انتباهي أن أرى هذا الجمال والعراقة في الزخرفات والأناقة الجذابة وكيف كانوا يتمتعون بالذوق الرفيع.
تعددية
في عملك التشكيلي ثمة تنوع بين أنواع مختلفة من الفنون ما بين الحبر الصيني والرسوم المائية إلى النحت على الصلصال إلى العجمي أيها أقرب إلى قلبك؟
لا أستطيع أن أقول لك ماذا أفضل أكثر الرسم أم النحت أم العجمي لأنني استخدم الثلاثة حسب الحاجة إليها وماذا أريد أن أعبر عنه. فكلها متصلة ببعضها بالنسبة إلي كونها تنبع من نفسي. لكل منها بالنسبة إلي نكهة خاصة ومزاج خاص.
في عدد من أعمالك تستخدمين أسلوب نحت قديم (النحت البارز والغائر) على الصلصال وهو فن الريليف في عدد من منحوتاتك حول تدمر قدمتِ به نقوشا ورسوما زخرفية نباتية وحيوانية وهندسية قديمة مستمدة من البيئة المحلية وكأنك تقومين بعملية إحياء للماضي ، ما الذي أردته هنا؟
ذهبت إلى تدمر سنة 2016 مع الاحتفالية التي قامت هناك والتي كانت بعد خروج داعش للمرة الأولى. حزنت على الخراب المقصود الهائل المريع الذي حل بها. كانت لي الفرصة لرؤية تدمر بعيون جديدة. بعد ممارستي للنحت أصبحت أنتبه أكثر إلى تفاصيل الزخارف والنقوش وأستمتع أكثر.
تأثرت بمأساة تخريب تدمر وبحثت وقرأت عن الحضارة التدمرية العظيمة والنقوش في معابدها واستهوتني حلي النساء ذات الجمال والذوق الرفيع. درستها بتأنٍ وبعدها استوحيت منها على طريقتي الخاصة. أقمت معرضاً في دار الأوبرا 2019 وكانت نصف المعروضات فيه تقريباً منحوتات مستوحاة من تدمر. وبالنسبة لي كان من المهم أن تلفت انتباه الناس إلى هذه الحضارة العظيمة وأحببت أن أقدمها بأسلوبي وكما أراها في عيوني.التعلق بالتراث والاستلهام منه وتوظيفه مهم جداً لكي لا ننفصل عن إرثنا الثقافي. فلا قيمة لأي إنسان ما لم يكن لديه جذور.
العجمي
العجمي حرفة دمشقية قديمة وعريقة ما الذي لفتك في هذا الفن وجعلك تمارسينه؟
استهوتني الأسقف الخشبية الملونة البارزة والخزائن المرسومة في البيوت العربية الدمشقية القديمة والتي تسمى بالعجمي. التحقت بدورة سريعة وتعلمت فيها تقنية العجمي وبعدها أصبحت أستخدم هذه التقنية في رسوماتي. وأنجزت بعضاً منها. في البداية جربت على خزانة بيضاء كانت عندنا. اخترعت الرسوم وأنجزتها . وبعد أن انتهيت لفت انتباهي كيف قد تغيرت الأشياء العادية وتحولت إلى أشياء فنية بالرسوم والألوان. المهم أنني لم أغرق في الأشياء التقليدية بالعجمي كما هو متعارف عليه وأردت أن أوظف التقنية التي تعلمتها في رسوم أبتكرها لا شبيه لها وبالتالي أكون شيئاً خاصاً بي.
كيف بدأت قصتك مع النحت؟
دخولي في مجال النحت كان مصادفة ولم أتوقع أن أنحت في يوم من الأيام. ذهبت إلى مركز أحمد وليد عزت لأتعلم ألوان الخزف وبقيت مدة هناك تعلمت من خلالها التعامل مع مادة الطين ولم أتعلم الألوان للأسف . وقد اكتشفت في الصف عندما كان يُطلب منا في البداية عمل إبريق مثلا” أني أبتكر فيه أشياء إضافية وأنحت فيه أيادي مثلا”. هكذا اكتشفت متعة النحت.
انتقلت إلى قسم النحت وتابعت دورة مكثفة. ثم اشتريت أكياساً من الطين وأصبحت أنحت بنفسي في البيت. وهكذا طورت قدراتي في النحت . بداياتي تزامنت مع الحرب على غزة ولذلك تجدين في بعض المنحوتات معاناة وحزناً شديدين.
يبدو واضحاً الهم السوري خاصة والهم الإنساني عامة في أعمالك النحتية من منحوتات تصور قوارب الموت إلى منحوتات تصور اناس خلف القضبان برأيك ما هو دور الفنان في الأزمات الإنسانية الكبيرة؟
لا يمكن للفنان أن يعيش داخل علبة زجاجية ويكون مفصولاً عن الواقع. الفنان الحقيقي تشده الأحداث التي حوله ويتأثر بها. نحتُ أعمال لا يوجد فيها حزن، حيادية … تجسد أفكاراً كانت تخطر على بالي . في بعض الأحيان قد أحتاج وقتاً أطول في بلورة الأفكار من الوقت اللازم للتنفيذ. ومن المهم جداً أن يحمل كل عمل فكرة ما ولو كانت بسيطة.
عندما بدأت الحرب في سوريا تأثرت كثيراً عندما رأيت صور المهاجرين وهم يركبون في القوارب غير الآمنة وغير المعدة لتحميل هذا الكم الهائل من البشر ويبحرون في البحر العميق إلى مكان مجهول غريب عنهم ولا يعرفون مصيرهم، خطرت ببالي منحوتة مهاجرون في البحر.
أنت تمارسين التصوير الضوئي أيضاً؟
استفدت من ممارستي التصوير وعنايتي باختيار اللقطات، فعرفت كيف أصور منحوتاتي بإضاءة معينة. أقمت معرضاً في صالة الشعب كان عبارة عن معرض تصوير ونحت. كل منحوتة كان خلفها تفصيل من منحوتة أعجبني فالتقطه. وشددت كل اللوحات المصورة التي كانت من قماش ومطبوعة بالأبيض والأسود. كانت فكرة جديدة وجميلة.
كيف توفقين ما بين عملك الموسيقي وعملك التشكيلي وكيف أثر كل واحد منهما على الآخر داخلك؟
أقول لأصدقائي دائماً أن لدي شخصيتان. شخصية موسيقية وشخصية فنانة تشكيلية. أي عندما يكون عندنا تحضير لحفلة وبروفات ترينني أغرق في الموسيقا. وعندما لا يكون لدينا حفلات تعمل الشخصية الثانية. المهم في الحالتين أني أعطي ما أعمله قلبي وأبذل كامل جهدي لتقديم الأفضل ولا أستطيع أن ( أفضل ) أي شيء. أعتد بالشخصيتين ويُمتّعني أن أجمع الاثنتين.