الناس نيوز | أحمد بغدادي
النحّات السوري ربيعة إبراهيم المقيم حالياً في السويد بمدينة “ فيستروس” من مواليد محافظة حمص عام 1969، خريج كلية الفنون الجميلة في دمشق ــ اختصاص نحت.
يقول إبراهيم للناس نيوز: “بعد بداية الثورة في سورية سافرت من البلاد عام 2015 لأن الوضع كان لا يحتمل كما يعرف الجميع، ووصلت إلى تركيا ومن ثم في رحلة شاقة جداً وصلت إلى السويد في الشهر التاسع لعام 2015، وأقيم حالياً في مدينة “بيستروس”.
لم تثنهِ الغربة عن بلده، والمجتمع السويدي الذي شكّل فارقاً في حياته الجديدة، وخاصةً إن حاجز اللغة هو عائق كبير أمامه كباقي اللاجئين، لذلك كما يقول إبراهيم إنه تحدّى كل هذه العقبات وأصرّ على تجاوزها: ” من الطبيعي عندما تعيش في بلد جديد يجب أن تتعلم لغته، حتى وإن كان محيطك يتكلم لغتك الأصلية، أو لغة مشتركة مثل الإنكليزية، لكن من الضروري جداً تعلم لغة البلد الجديد. وفي السويد خصوصاً، لن تصل إلى معرفة هذا البلد دون تعلم لغته، كي تفهم ثقافته، وتكتشف حاجاتها وتعرف ماذا يمكنك أن تقدم لها، ولكي تصبح جزءاً من هذا المجتمع، وتقدم له كما يقدم لك بشكل تبادلي، لذلك، تعلمت اللغة، ولم يكن الأمر سهلاً، إنما كان ضرورياً لأكون جزءاً من هذا المجتمع، فكان لدي الإصرار لتعلم اللغة.
التجربة الفنية في السويد: النحت والتدريس
عن الفن، وتجربة التدريس في السويد يقول إبراهيم “يعتبر الفن في أي مكان بالعالم ترفاً، حتى في السويد، إنما الفن الخدمي يعتبر عملاً مربحاً جداً، مثلاً، الفن المرتبط بصناعات كصناعة الأقنعة (الماسكات) لــ هوليوود، هذا فن يعتبر مربح، وأيضاً النحات الذي يصنع منحوتات لها وظيفة معينة ولها شكل خدمي فهذا عمل أيضاً مربح، لكن الفن المجرّد، غير المرتبط بخدمة معينة هو مسألة غير ربحية حول العالم، وفي السويد هناك مبلغ مخصص من الدولة لدعم الفن، لأنهم يدركون أنه دون هذا الدعم لا يمكن أن يستمر. وأهم شكل من أشكال الدعم الذي يقدمونه هو دعم الفن الخاص بالأطفال، وكل ما يمكن أن يطور الطفل ويكسبه المعرفة والعلم، وكان هذا من حسن حظي لأنني أنا أيضاً أحب النحت وأعشقه كمهنة وأحب أيضاً التعليم.
-
تعرفتُ على أناس كثيرين، منهم من النخبة الفنية، وآخرين لهم اهتماما بالنحت وباقي الفنون البصيرية، إلى جانب الأدب.. وخلال لقائي مع مديرة الثقافة السيدة Brritt-lnger Lindberg في مقاطعة “فيست من لاند” التي أقيم بها، طلبت مني بعد أن اطلعت على أعمالي، ألا أكون بخيلاً على المجتمع، بل أن أقبل بتعليم ما أعرفه للآخرين، فأخبرتها لا مانع لدي مُطلقاً، بل إنني أحب أن أنقل خبرتي وأعلّم الآخرين أيضاً.
والعمل الذي اتفقنا عليه حينها أن أقوم بالذهاب للتدريس في مدارس عديدة، وليس مدرسة واحدة، وقمنا بتقسيم الوقت بين المدارس، مثلاً أسبوع في كل مدرسة أو أكثر بقليل أحياناً، حسب حاجة كل مدرسة، وذلك ضمن المقاطعة التي أقيم فيها، وهذا الأمر بالفعل ساعدني لأقوم بتعليم ما أعرفه عن النحت وحب الجمال والفن للكثير من الأطفال، وكان ذلك المخطط ذكياً جداً من قبلها، وهم في هذه البلاد يخططون لكل شيء بطريقة ذكية.
- شارك ربيعة إبراهيم في نشاطات كثيرة في مجال الفن، وبالتحديد مع الأطفال، ويقول في حسرة إن البلدان الأخرى وخاصة هنا في السويد، يقومون بتسخير كل طاقات الأطفال ويدعمونهم، لأنهم يدركون بأن الأطفال هم مستقبل البلاد، وللأسف ذلك محزن عند المقارنة بأطفال سورية الذين لم يسخر لهم حزب البعث شيئاً سوى التجهيل وطمس الحقائق.
قمتُ بعمل عدة ورشات مع الأطفال في مقاطعات مختلفة، وبتقنيات بسيطة يستطيع الأطفال التعامل معها، وقمت بالمشاركة أيضاً في معارض خاصة ضمن صالات عرض كثيرة.
كما قمت بإلقاء محاضرتين باللغة الإنكليزية ضمن مؤسسات فنية عريقة، الأولى بمتحف “فيشروم” والثانية بدار الفن في مقاطعة ” يافلي” بمدينة “سودرهامن”، تحدثت خلالهما عن الفن في سورية وتاريخه، والوضع الحالي في البلاد.
وشاركت في مقاطعة “كرون بيرغ” بمناسبة مرور عشرين عاماً على إقامة متحف “فيشروم” واختاروا 20 فناناً ليعبر كل فنان عن سنة من السنوات العشرين، وكنت أنا واحد منهم.
ولم أتوقف أبداً عن هذا النشاط إلى أن بدأ انتشار فيروس كورونا، حيث أصبح هناك ظرفاً جديداً فرض نفسه على جميع البلدان، لذلك بدأت بإنجاز مشاريع صغيرة داخل منزلي، إلى أن تنتهي هذه الفترة.
مرآة أخرى:
بالنسبة لأحلامي المستقبلية أنا إنسان واقعي، وأدرك جيداً أن عمل الفنان وإنتاجه ينقسم إلى قسمين؛ الفن الذي يريد هو العمل عليه، والفن الذي يجلب له المال، وبالنسبة إلي أعتبر أن التدريس هو الجانب الذي يقدم المردود المادي، إضافة إلى أنني أحبه، أما الفن الذي أحب أن أصنعه، فلدي استعداد بأن أتبناه بشكل شخصي من الناحية المادية، حتى يتم إنجازه، وليس فقط من أجل الشهرة ، رغم أنني أقوم بعرض أعمالي لأني أحب أن يرى الآخرون أعمالي.
- أما الرسام والناقد التشكيلي السوري من مدينة منبج السورية والمقيم في النمسا، حمّاد حمو، والمقرّب من النحات ربيعة إبراهيم يقول عن تجربة صديقه: ” أستطيع رسم لوحات متصلة ببعضها، كبيرة بحجم الألم السوري، وأراها من زاوية نقدية غريبة، كأنني لم أرسمها على جدران مدن اللجوء في النمسا، لأنني أفتقد إلى صلتي مع وطني؛ فهذا الألم والحساسية والشعور بالخيبة بين فنان وآخر، شيء متفاوت، ويعود لطاقة الفنان وحجم إبداعه، وربيعة إبراهيم، لديه القدرة على رمي الماضي الجائر خلفه، وذلك بات جلياً في أعماله، وعلى سبيل المثال؛ يعمل ربيعة على منحوتات رمزية بعيدة عن الخوف والمعاناة، وفي أعماله نرى الأمل والجمال، وكأن القطع الفنية (المنحوتات) تكاد تنطق، تحت إزميله أو حينما تكون معروضة أمام الآخرين.
وليس بوسعي سوى أن أقول، إن ربيعة إبراهيم ذهب بالقطيعة بين الوطن والذات إلى منحىً آخر، عماده الجمال ورموزه، وهنا جاء إصراره على تحويل المنفى إلى فردوس خاص به من خلال إبداعه.
الخيار بين السويد أو العودة إلى سوريا:
مثل كل السوريين اكتشفنا أن بلادنا كانت عبارة عن وكر يملكه شخص واحد، يمنح فرص العمل للأشخاص المشابهين له والذين يريدهم فقط، لأنه كان ضحلاً مثل أبيه، ولم يسمح لسورية بأن تكون بلداً فعالاً، وأن يكون فيها أشخاص ينتجون إنتاجاً جميلاً ورائداً ومشرفاً، فبالنسبة لهم هذا النوع من الإنتاج يعبر عن أشخاص عقلاء ومبدعين وهم لا يريدون هذا النوع من الأشخاص، لأنهم يعرفون أن هؤلاء سيعملون على بناء جديد للبلاد وهم ضد هذا الأمر حتماً، حتى أنهم يعتبرون هؤلاء أعداءهم.
في المستقبل البعيد لا يوجد ضمن مخططاتي العودة إلى سورية، ولهذه اللحظات أشعر بالذعر من كلمة سوريا، وعندما أرى فيديو عنها ينتابني الخوف، حتى وإن كان فقط يصور منظراً عاماً في مدينة دمشق؛ فكل تفصيل في تلك المدينة عشناه كان يتضمن الخوف، وكأننا كنا نحيا داخل كابوس، وبعد أن خرجنا منه لا نريد العودة إليه، حتى أنني لا أتخيل أن أستطيع القيام بفعل بسيط جداً بسورية وهو الانتقال بين رصيفين، وقطع طريق ما في دمشق.. وأسأل نفسي الآن كيف كنا نعيش ضمن كل ذلك الخوف، حيث كان الخروج من البيت هو مغامرة، ممكن ألا يعود الشخص منها أو أن يعود مشلولاً، وذلك قد يحدث هناك لأي سبب.
السويد بلد جميل لكن ليس كما كان يخّيل إلينا، لأن الإعلام لم ينقل صورة هذه البلاد بشكل حقيقي. في السويد كل شيء منظّم، وأجمل ما فيها هو تقدير الإنسان، إضافةً إلى تقدير الفن، وتقدير كل جهد يبذله أي إنسان، مهما كان صاحبه بسيطاً أو محترفاً أو متقناً بعمله أو عبقرياً أو مبتدئاً؛ إنهم يقدرون كل شيء، ويحترمون كل جهد ويضعونه في المكان المناسب ويستثمرونه بأفضل شكل.
لذلك للأسف لا أتخيّل نفسي مرة أخرى في سورية، فمجرّد ذكر الموضوع يخيفني، ونتمنى كل الخير للناس الذين ما زالوا يعيشون هناك، وأرجو أن يتخلصوا هم أيضاً من هذا الكابوس، ويعيدوا بناء سورية لتصبح أفضل، لكن حالياً في ظل هذه العصابة لا يمكن فعل شيء لسورية.