أنور عمران – الناس نيوز ::

عندما يبدأ أصدقاؤنا المجايلون بالرحيل، ونقف أمام الموت وجهاً لوجه، نفكر بالرثاء بطريقة أخرى، بطريقةٍ تتعدى أن تكون تحيةً تليق بمن تركوا أثراً طيّباً، أو فكرةً مراوغة تستعيض عن الدموع بالكلمات، فجأةً يصير التفجع جزءاً حقيقياً من هويتنا اللغوية، فننشغل في كل كلمة رثاء نكتبها بتوديع أنفسنا أكثر من توديع الآخرين، لكننا نتعمد أن نكذب ونستعمل الأسماء المستعارة، وبذلك نُغلِّفَ خوفنا من العتم الأبدي بالموسيقا…
أفكر بالكاهن/ الشاعر الذي ابتكر الرثاء، وهو ينظر إلى آخر جزءٍ يظهر من السفينة الغارقة، يتأمله وهو ينزل ببطءٍ وإذعانٍ إلى الأعماق، ربما كتب هذا الكاهن حينها عن لجة الغموض المهيب، وربما غنّى أولى تراتيله كي يحجز لأوهامه مقعداً مريحاً في الفضاء الواسع الذي يحيط به…
ولكن المؤكد أنه منذ جلجامش وحتى الآن، حاول كثيرون، وآخرون مازالوا يحاولون، أن يربحوا معركتهم مع الموت: الإنجازات العظيمة، البروج العالية، القصائد، الأفلام السينمائية، محاولات العلم لإطالة العمر البشري، وحتى إنجاب الأبناء، كلها محض زبد واهٍ يتكسر على صخرة الموت العنيدة…. لا مناص إذن… وإذن لا بد من إضفاء مسحةٍ جماليةٍ على هذه الحتمية البغيضة…. ربما لهذا السبب انوجدَ الرثاء..
هل نختار الأشخاص الذين نرثيهم بكامل وعينا؟؟؟ تدفعنا خبراتنا الخاصة إلى تكثيف فكرة الموت العامة في شخص معين، فقط لأن طرقاتنا تقاطعت معه مصادفة في يوم ما، أو فقط لأن الأقدار شاءت أن نكون من سلاسة واحدة؟… أفهم كل هذا، أما أن نرثي شخصاً لم نلتقيه أبداً، فيبدو الأمر غريباً بالنسبة لي، وبالطبع أستطيع أن أجد مئات التفسيرات بالاعتماد على علم النفس، ولكنني أفضل حديث الشعر …
أكثر من حزنتُ على موته عدا عن أقربائي وأسرتي شخص يعرفه أهل مدينة حمص جيداً، رجل أعمى كان يبيع أدوات مطبخ بسيطة في السوق المسقوف، عاش مثل المعري ” رهين المحبسين” العمى والفقر، أتخيله – بعتمه الأرضي الذي رافقه قبل أن يصل إلى العتم المطلق- تجسيداً صارخاً لما ورد في سفر التكوين: ” بعرق وجهك تأكل خبزاً، حتى تعود إلى الأرض التي أُخِذتَ منها”:…
أما موت محمود درويش، فقد كان لحظةً فارقة في حياتي، عشتُ أكثر من سنة بعدها، وأنا أفتش بين كلماته عن النبوءة التي لا تحتاج أصلاً إلى متنبئ، النبوءة الواضحة والبسيطة كأغنية عرس ريفية تراثية، أقصد تلك الأغاني التي تستحضر بطريقة مذهلة تيمة الموت كعدو حاضر بظلاله في موقفٍ يَفترضُ أن ينشغل بالحياة، وكأن أجدادنا أرادوا أن يقولوا: “هذا الاحتفال المهيب بروفا لزفاف آخر، زفاف إلى الأصل الحقيقي للوجود”.
” قومي صيحي ودبّي الصوت، أولادك ما تهاب الموت”…
وأنا استحضر أولئك الذين حزنت لموتهم من دون أن ألتقيهم، أجد صورة الفنان المصري الراحل لطفي لبيب تحتل جزءاً من دمعي…
في معظم الادوار التي أداها لطفي على المسرح وفي السينما والتلفزيون كان يستوقفني هذا الرجل المعجون بالفن، لم أستطع أن أقتنع أنه كان يتعامل مع الفن كمهنة، فقد رأيت بوضوح أن شغفه فقط هو ما كان يدفعه إلى التمثيل، كان يجسد شخصياته بطريقة تجعلني لا أصدق أنه لطفي أو أنه أي شخص آخر غير الشخصية التي يؤديها، وكنت أتخيله دائماً مثل الطفل الحافي الذي يركض وراء عربة بائع الحلوى ويُلوّح لها من بعيد، من دون أن يملك ثمن السكاكر…. وبالرغم من ذلك، سطعت نجوميته أكثر مما توقع …
ليس وسيماً مثل نجوم السينما الآخرين، وكل عدّته التي امتلكها لا تزيد عن صدقه، هو غالباً الرجل الثاني وربما الثالث الذي يسند البطل أكثر من البطل نفسه.
مات لطف لبيب من دون أن يحصل على دور بطولة، مثل مبدعين كثيرين آخرين في كل مهنة وكل مكان، وربما هذا ما يدفعني أكثر إلى رثائه، أتذكره أولاً لأنه واحد من الذين دفعتهم رياح الحظ إلى أماكن أوطأ من قاماتهم، وثانياً لأنه انشغل بموهبته وشغفه عن بناء شبكة علاقات عامة – غالباً ما تكون ملوثة – وفضَّلَ أن يعيش ممثلاً حقيقياً لا نجماً كبيراً ومُلَمَّعاً.
ثمة ” وداعاً ” كبيرة يستحقها هذا الرجل، تلويحة من أشخاص لم يتشرَّفوا يوماً بلقائه، لكنهم عاشوا عمرهم مثله، يركضون حفاةً وراء عربة بائع الحلوى، من دون أن يذوقوا طعم الحلاوة ولو مرة واحدة.



الأكثر شعبية


“قيصر” السوري يمر في الشيوخ الأميركي ويتجه إلى الكونغرس…

أوروبا تُطلق نظاما آليا جديدا لمراقبة الحدود
