[jnews_post_author ]
يقول الفقيه الدستوري Léon Duguit: “ليس للدستور أي ضابط سوى حُسن نية وأمانة الرجال الذين يطبقونه”. فالدستور ليس آلة أو أداة صماء تصممها وتحركها أصابع رجال القانون، بل هو أبعد من ذلك هو نوطة موسيقية يجب أن تترجم كصحوة روحية ونفسية في المجتمع، تفعل فعلها إيجاباً بحيث لا تحقق النشوة إلا من خلال الطبقة السياسية التي تعزف على هذه الآلة. ولذلك يُضيف Léon Duguit: “إن كان يحصل أحياناً احتكاك في مفاصل الآلة الدستورية، فمرد ذلك إلى الرجال الذين يريدون التحكم بها أكثر بكثير مما هو إلى خلل في القِطَعِ التي تتألف منها هذه الآلة، فليبق كل مكانه وليقم بواجباته وهو يفكر في المصلحة العليا للبلاد، عندها سيكون كل شيء على ما يرام “.
التاريخ يعلمنا بأن دولا عديدة تعرضت وتتعرض لأزمات سياسية ومجتمعية عميقة بغطاء دستوري، لكنها استطاعت الخروج من هذه الأزمات، بفضل مهارة العازفين من رجال الحكم أكثر منه بفضل نوطة (أحكام) الدستور، بمقابل دول تعرضت لأزمات مشابهة، وأحياناً أقل عمقاً، لكنها انزلقت نحو الفوضى والحرب الأهلية بسبب العزف النشاز والهابط من رجال الحكم رغم وضوح نوطة (أحكام) الدستور.
إنه الفارق بين رجال الدولة في الحالة الأولى، ورجال السلطة في الحالة الثانية. ففي السياسة وفي الحكم دائماً هناك رجال دولة ورجال سلطة: أي ضمائر وديماغوجيون.
رجل الدولة هو من وصل إلى السلطة لا يبقى فيها، بل ليبقى في ضمير الدولة والمواطن أثناء توليه السلطة (السلطة بالنسبة له مسؤولية) أو خارجها (السلطة تاريخ مُسجل يروى للأجيال القادمة. رجل الدولة هو شخص عاقل ونزيه وإلى حد ما ورع في ممارسة السلطة. لذلك يعتمد في تواصله مع الجمهور على ما يمكن تسميته بـ “الخطاب الذكي” الذي يوصل ما يهدف أن يقوله بأقل وأبسط العبارات المبني على قاعدة “الإيجاز غير المخل والإطناب غير الممل”، فهو لا يقول “لزوم ما لا يلزم”.
رجل الدولة يقول الحقيقة عارية مهما كانت قاسية ولا يعامل الناس كأغبياء مهما كثرت عليه مغريات السلطة وتثاقلت عليه ضغوط البقاء فيها. لذلك مهما حاز من إنجازات وتوفرت له شرعية تاريخية وغطاء من النوطة الدستورية، لا يتورع عن التضحية بنفسه في سبيل بقاء الوطن لأنه يُدرك بأنه باق في ضمير الوطن والناس. رجال الدولة يؤمنون بأن أوطانهم أكبر منهم ولذلك يدفعهم الكبرياء للرحيل وليس للبقاء.
لم يشفع التاريخ المشرف لـ Charles de Gaulle لدى الشعب الفرنسي، الذي خرج في مظاهرات مناوئة له. لقد وجد de Gaulle أمامه خليطاً من ذوي النيات الحسنة ومن الوصوليين وحتى من الرُعاع، تأمّل المشهد في شوارع باريس وقرّر ألا يترك فرنسا تحترق من أجله أو بذريعته رغم ما بنى من إنجازات وشرعية تاريخية وغطاء دستوري. ربط مصيره السياسي بنتيجة استفتاء شعبي حول جملة من الإصلاحات التي اقترحها على الفرنسيين، قرأ نتيجة الاستفتاء دعوة له للانسحاب من أجل فرنسا، انصرف لكتابة مذكراته، ورحل إلى قريته الصغيرة ليقضي سنته الأخيرة، تاركاً وصيتين: الأولى: ألا يحضر جنازته رؤساء ولا وزراء ولا سياسيون،
والثانية: ألا يُحفر على قبره إلا: “Charles de Gaulle 1890-1970”.
في رسالة طويلة وصلتني منذ أربع سنوات من أحد أساتذتي (وهو من كبار أساتذة علم الاجتماع القانوني Sociologie de droit)، يطمئن عني بعدما ما جرى في سورية، قال فيها:
أنا الآن على مشارف الثمانين من العمر، كنت طفلاً عندما سمعت لأول مرة باسم Charles de Gaulle، ويافعاً عندما فصّل له صديقه Michel Debré دستور الجمهورية الخامسة على قياسه، والذي عدّله de Gaulle عام 1962 ليتناسب ومقاسه الذي تضخم أكثر بعد السلطة، وكنت شاباً من بين الشباب الذي قال لـ de Gaulle عام 1968 كفى حان وقت الرحيل. تعلم يا عزيزي كم تضخمت شخصية de Gaulle مما دفع Jean-Paul Sartre إلى قول جملته الشهيرة، في مقال من حلقتين في “الاكسبرس”: “لست مؤمنا بالله لكنني سأقترع إلى جانب الله لأنه أكثر تواضعاً من ديغول”. وفي 25 أيار/مايو 1958 كتبت صحيفة “باري برس”: “باختصار كلّي، المسألة واضحة الآن: البرلمان يثق بالمسيو فلملان الذي يثق بالجنرال سالان الذي يثق بالجنرال ديغول الذي لا يثق بالبرلمان، لكنه ينتظر منه أن يصوّت على الثقة به”. لقد كان بإمكان de Gaulle ألا يستجيب لنا، فهو جَهدَ في تصميم الدستور على مقاسه للبقاء في السلطة، ويمتلك كامل الشرعية والتعاطف التاريخي من الناس… ولكن رحل de Gaulle الكبير حجماً ليبقى كبير مقام… رحل لأنه أدرك في لحظة الحقيقة أن فرنسا أكبر منه حجماً ومقاماً… لو لم يرحل لصغرت فرنسا وصغر معها… لو لم يرحل في اللحظة التي يجب فيها أن يرحل لكانت فرنسا في مكان آخر، ولكانت صورة وتاريخ de Gaulle في مكان آخر… رحل de Gaulle ليس لأنه عظيم… رحل عندما أدرك أنه أصغر من أمة عظيمة ووطن عظيم… رحل de Gaulle على أمل أنه من الممكن أن يكتب التاريخ عنه أنه كان رجلا عظيما.
بالمقابل، رجل السلطة هو مجرد ديماغوجي يتوسل التأييد بمخاطبة الرغبات والغرائز للبقاء في السلطة (المسؤولية بالنسبة له مجرد سلطة) جاهز لدفع أي ثمن وللتضحية بكل شيء وبالوطن لو تطلب الأمر ذلك، لأنه يدرك بأنه زائل لا محالة بزوال سلطته.
رجل السلطة لا يعرف ولا يستطيع قول الحقيقة كما هي، فيراهن على استغباء والاستخفاف بعقول الناس. ولذلك ينساق في تواصله مع الجمهور على نمط من “الخطاب الغبي” و”الخطاب الأبله”، الذي لا يُقدم ولا يؤخر في إيصال ما يريد قوله، بل ويعطي صورة عكسية أو صورة تشكك بما يقول. ولذلك يعتمد على خطاب طويل يستفيض فيه في الشرح، بحيث كلما زاد في الشرح ازداد غموضاً. فبإفراطه في الشرح وتكراره للعبارات والمصطلحات وإصراره على تحديد وتوضيح مضامين ما يقول، كأنه يعمل على تبرير نفسه وكلماته، أي يصبح أشبه ما يكون بمن يحاول إنقاذ نفسه من تهمة سوء الفهم، ويزيد من الطين بلة بمحاولته زخرفة ما يقول بحزلقات النحو وبالبحث عن تراص لكلمات منمقة، مما يدلل على فقدان الثقة في القدرة على إيصال المعنى، كما يدلل على عدم الصدق والإيمان فيما يقول، وهو بهذا يحرق جسور التواصل مع الناس. وبالرغم من ذلك فإنه هذا الوضع يدفعه بغباء (ممزوج بأدوات السلطة) إلى تكوين هالة حول شخصه تتجاوز الدولة والناس، فيدعي العظمة والإلهام (وأحياناً بطابع إلهي) ويستحضر دائماً إنجازاته التي تؤكد شرعيته التاريخية، بحيث يعتقد ويفرض على من حوله الاعتقاد بأنه “ولد نظيفاً من عيون أمه، لا كما يولد الناس من بطون أمهاتهم”.
باختصار: رجل الدولة يعزف نوطة ولحن الناس الذي يمتعهم، أما رجل السلطة يتفضل على الناس بعزف لحنه ونوطته، وعلى الناس الاستمتاع بنشازه.