أنور عمران – الناس نيوز ::
في طفولتي كان كل أقراني يُصَفّرون، منهم من يثني السبابة والإصبع الوسطى، يدفعهما داخل فمه فيخرج الهواء من بينهما مترنحاً ومليئاً بالموسيقى، ومنهم من يمط شفته السفلى، يحصرها بين الإبهام والسبابة، فيخرج الصفير من كهفه الصغير كأنه جوقة من الطيور، لكن محاولاتي كلها لم ينتج عنها إلا صوت واحد، صوت يشبه صوت الرياح في غرفة فارغة من الأثاث ولا أبواب لها ولا شبابيك، الهواء الأعرج والأضعف من أن يصعد السلم الموسيقي، ولذلك عشتُ أحسدُ أقراني فهم يستطيعون ما لا أستطيع…
في الفترة الأخيرة تلقيتُ تعليماً وتدريباً مهنياً يؤهلني للعمل كتربوي مع الأطفال من عمر سنة حتى ست سنوات أي ما قبل سن المدرسة النظامية، وبالفعل بدأت عملي بشكل ميداني، وربما استطعت مؤخراً من خلال خبراتي وتجاربي الجديدة أن أفهم سبب عدم إتقاني للتصفير، فالأطفال لا ينقسمون كما كانوا يصنفوننا في طفولتنا إلى ذكي وغبي نشيط وبليد، وإنما هناك الكثير من المشاكل والأمراض القابلة للعلاج كصعوبات التعلم وعسر القراءة واضطراب اللغة وضعف التركيز وفرط النشاط…إلخ، كما أن الأطفال لا يتطورون بنفس السوية وعلى كل المستويات، فبعض الأطفال يتطورون على المستوى الحركي بسرعة بينما يتطورون على المستوى العقلي ببطء، وكذلك بالنسبة للمستويات العاطفية والاجتماعية واللغوية وغيرها… وما يهمني هنا أنني أدركت أن تطوري كان بطيئاً في مستواه الحركي، وبالعفل لم أكن أتسلق الجدران أو أقفز فوق الأسوار أو أدخل في مشاجرات أو حتى ألعب كرة القدم كما كان يفعل أصدقائي، وهذا بالطبع، وفي مجتمع يفتقد إلى التشخيص الدقيق، يستدعي من الآخرين وصفي بالبطيء والبليد بالرغم من تفوقي الدراسي، وأظن أنني لم أتمكن من مسايرة أقراني تماماً حتى سن الخامسة عشر، حينها زال الخجل والانطواء الذي ترافق مع البطء، وتحول إلى صرخات تمرد ورفض لم تتوقف حتى الآن، وربما لم تكن القصائد إلا أوضح تلك الصرخات، لكن مشكلة التصفير لم تُحل حتى الآن، ومع أنني الآن في الخمسين، ما زلت من فترة لأخرى، أجلس بعيداً عن عائلتي، أمط شفتي السفلى، أحبسها بين السبابة والإبهام، وأحاول… وأحاول… ولا شيء إلا صوت الهواء .
صوتي المخنوق في الطفولة، ومتواليات القمع الاضطهاد التي تتوالد تلقائياً في بيئة تحكمها الأعراف والأديان والديكتاتوريات، حيث يمكن لأي أحد أن يضربك وأن يؤذيك جسدياً من دون أن يتعرض للمساءلة، الأهل ومعلم المدرسة وأجهزة المخابرات، حيث يكون الضرب شائعاً كالخبز، والموسيقى والحب بالتقطير، كل ذلك جعلني أحمل في قلبي عدسة مكبرة وأبحث عن الظلم، ومن دون وعي مني صار الصفير في كتاباتي رمزاً لصوتي وصوت الآخرين المخنوق، وما اكتشفته مؤخراً أن هذه المفردة، مفردة الصفير، موجودة بكثرة ملفتة في نصوصي وقصائدي، صفير الرياح، صفير القطارات، حتى أنني قلت مرةً عن اللغات الأخرى التي ليس فيها حرف الصاد “كيف يمكن أن يعرفوا الموسيقى وهم لم يتوهوا وراء صفير الصاد”، وقد أستطيع أيضاً أن أُفسِّرَ محاولاتي اللحوحة وحتى الآن لتعلم التصفير بأنها محاولات للالتفاف على الزمن ولاستعادة صوت القديم المخنوق، أو عزاء عن آلاف الكلمات التي كان يجب أن أقولها ولم أقلها لأهلي وجيراني وأساتذتي وكل السدنة.
لماذا أكتب عن التصفير الآن؟!، ابني اقترب من الخامسة، ومنذ أيام كان يجلس بجانب والدته ويحاول أن يُصَفِّر، ولكنه لم ينجح، التفتتْ زوجتي إلي وقالت: بالطبع أنا لا أستطع أن أُصَفِّر، هذا عمل الرجال، تعال وعلِّم ابنك التصفير.! خجلت أن أقول لزوجتي أنني صرت في الخمسين ومازلت أتعلم التصفير، وشعرت بخوف شديد عندما تخليت للحظة، ومع المد المرعب للأفكار والأحزاب اليمينية في أوربا، أن ابني لن ينجح أبداً مهما حاول، فقد تكون زوجتي محقة… قد يكون التصفير فعلاً عمل الرجال.