أنور عمران – الناس نيوز ::
جرت العادة في السويد، الدولة التي أعيش فيها الآن، أن ترسل المؤسسات الصحية إشعاراً للرجال الذين يبلغون سن الخمسين يُفيد بضرورة إجراء تحليل ” PSA ” ، ويهدف هذا التحليل إلى قياس إفرازات غدة البروستات، والتي قد تبدأ أعطالها الروتينية من تضخم وأورام حميدة وغيرها عادةً في هكذا سن، لحسن الحظ ربما، وربما لسوء حظي، وصلني الإشعار المذكور عن طريق الخطأ قبل سنة من موعده، ولأنني لا أشكو من أية أعراض تشير إلى احتمالات الأمراض، قررت أن أرمي الإشعار في سلة المهملات، ولكن زوجتي – والتي صارت طليقتي بعدها بعدة أشهر- أصرت على أن أجري الفحوصات بهدف الاطمئنان، وفعلاً كان ذلك، والنتيجة التي يجب أن تكون أصغر من 3 جاءت 3.2 تماماً، وبذلك أعلنت هذه الزيادة الطفيفة بدأ أسوء.
رحلة وأسوء حدث في حياتي كلها.
مجرد وصول الإشعار وضعني في خانةٍ لم أضع نفسي فيها من قبل، لقد اعترفت لنفسي بأنني أصبحتُ عجوزاً، وبأنني صرت عرضةً لأمراض الشيخوخة، وأول ما فعلته هو أنني توجهت إلى المرآة، وفي المرآة كان الشعر الأبيض يتسلل ببطء وخجل إلى الذوائب، يتسلل مثل لصٍ لا تعنيه أموالنا ولا مجوهراتنا أو ممتلكاتنا كلها، ولكنه يتسلل كي يسرق ما هو أغلى بكثير، كي يسرق أعمارنا، بعدها فوراً تفقدتُ صور أصدقائي على مواقع التواصل الاجتماعي، كلهم شابوا بشكل كامل، وأنا الوحيد ذو الشعر الأسود، والذي بالمناسبة مازال أسود حتى الآن لأسباب وراثية بحتة، فأبي توفي في السابعة والسبعين وشعره يميل إلى السواد أكثر من البياض، هذه الوراثة التي طمست عني الحقيقة، ومنحتني وهم الأمان، وبينما يفكر أقراني بصباغة شعرهم باللون الأسود، بدأت أفكر جديّاً بصباغته بالأبيض كي أتذكر دائماً المسافة الملائمة التي يجب أن تفصلني عن الأشياء الواقعية، وفجأة شَردتُ وراء الثنائية الأزلية، ثنائية الأبيض والأسود، وتهيّأ لي ان الشاعر أمل دنقل هو الوحيد الذي حدس بالحقيقة، فالأبيض هو اللون الشرير وليس الأسود كما يدّعي الجميع، الأبيض لون الشيب ولون ثياب الممرضات ولون أغطية الأسرّة في المشافي، ولون الكفن أيضاً، وإذا ما صادف أنك تعيش في السويد، فهو لون الثلج الطويل والمقيت، ولكن احتفاظي بسيد الألوان في شعري، بلون الفتوة والمسك الأسود هو حجاب زائفٌ يغطّي الأبيض الباهت الغبي، فالحقيقة لا تقول إنني حصلت على الإشعار من المؤسسة الصحية فقط، ولكن ثمة حقيقة أدهى: النتيجة 3.2 .
أصرت الاخصائية المسؤولة عن ملفي على ضرورة التصوير بالرنين المغناطيسي مع تأكيدها بنفس الوقت على عدم وجود احتمال حقيقي للسرطان فنسبة الزيادة قليلة ولا تشي بذلك، وكذلك ليس من الشائع تأكيد الإصابة في سن مثل سني، فغالباً ما يهاجم سرطان البروستات الرجال بعد سن الخامسة والستين، ولكن صورة الرنين أكدت وجود شيء غير طبيعي، وتوالت السبحة، فأصرت الأخصائية أيضاً على ضرورة أخذ عينة من البروستات للمختبر بهدف تحليلها “الخزعة”، وما فهمته حينها من الأخصائية أنني سأحصل على رسالة من المركز الصحي في حال كانت العينة سليمة، وفي حال أثبتت العينات الإصابة بالسرطان فسأتلقى اتصالاً هاتفياً من مشفى المدينة المجاورة ” كارلستاد”.
عشرة أيام هي المدة الفاصلة بين موعد الخزعة وموعد النتيجة، وبالطبع كانت عشرة أيام مليئة بالآلام الجسدية الناتجة عن الخزعة، والنفسية التي سبَّبَها الترقب، وبعد عشرة أيام فجأة رن هاتفي، وحجزت لي المتحدثة بعباراتٍ سريعة ومقتضبة، وكأنها تهرب من سؤالٍ مُفترض، موعداً في ” كارلستاد”، ولكن كلانا لم يكن بحاجة إلى أكثر من رنين الهاتف وحجز الموعد ليكون بغنى عن كل الأسئلة وكل الأجوبة… إنه السرطان إذن.
يتبع