أنور عمران – الناس نيوز ::
تخيلوا أنكم تعيشون في دمشق أو القاهرة أو بغداد، ولديكم صديق ألماني أو فرنسي أو إيطالي يعيش معكم في هذه المدينة وهو بالكاد يتكلم العربية، تخيلوا أن هذا الصديق يحاول أن يروي لكم طرفة حدثت خلال يومه، يعيد كلامه عشرات المرات، مع قواعد خاطئة تزيد الطين بلة، ومع محاولاتك لتقريب المعنى ووضعه في سياقه الصحيح، ومع استماعكم للحديث بعشرات الطرق المختلفة والخاطئة، إلى أية درجة من الملل ستصلون، وما الذي سيبقى من روح النكتة؟؟
يشبه هذا ما يحدث مع المهاجرين الذين جاؤوا مؤخراً إلى أوربا، فاللغة تعلمناها من خلال دورات مكثفة تركز على الكلمات المفتاحية التي تساعد في سوق العمل والتعارف السريع وعليكم أنتم أن تجتهدوا، أن تكونوا شغوفين وتكملوا البقية، ولكن كيف يمكننا أن نتعلم اللغة، هل يكون ذلك من خلال الكتب والفيديوهات التعليمية؟ .
من المعروف أن الطفل يتعلم اللغة من خلال سماعها، ولكي تتعلم لغة ما يجب أن تسمع سياقاتها من خلال نطق أصحابها، وهذا ما يندر أن يحدث في البلاد الجديدة وخصوصاً في مملكة السويد.
في فترة جائحة كورونا والدعوات إلى التباعد، ظهر في السويد كاريكاتير ظريف يظهر الفرق بين وقوف الناس في موقف الباص قبل كورونا وبعد كورونا، وبالطبع لم يكن هناك فرق أبداً ففي كلتا الحالتين هناك مسافة كبيرة بين الناس وأظن أن هذا الكاريكاتير يمثل روح السويد.
هذا التلعثم والملل الذي نخلفه في نفوس محدثينا، وطبيعة السويديين الانعزالية، وبعض الأمور الأخرى، كان من نتيجتها أننا في الحقيقة نعيش بلا أصدقاء من أبناء السويد، ومن نتائجها أيضاً أننا وباتفاق ضمني وتواطؤ مع الدولة عبر شركات السكن نعيش في أحياء غالبية قاطنيها من المهاجرين، ففي هذه الدولة التي تدعو لاندماج المواطنين الجدد مع أبناء ومع ثقافة المجتمع، نادراً ما تعرض عليك شركات السكن المملوكة من قبل الدولة أو شركات السكان الخاصة شقة في حي كله أو غالبيته من السويديين، وهذا ما أدى بالطبع زيادة العزلة واتساع الهوة، وإلى خلق ثقافات موازية، فتستطيع ببساطة وأنت تسير في أحياء السويد أن تعرف هوية الحي من خلال العديد من الإشارات الواضحة كرائحة البخور الافريقي ورائحة الطعام العربي ولباس الفتيات في الشوارع وصحون الريسفير التي تحاول أن تلتقط ترددات المحطات التلفزيونية وطبيعة المحال التجارية التي تتوزع في المكان وطبيعة بضائعها، ومن هنا يبدأ التعريف الحقيقي للاغتراب، حيث يحاول الكثيرون نتيجة شعورهم بعدم رغبة الآخرين بالتواصل معهم، يحاولون أن يدافعوا عن وجودهم بمزيد من الارتداد نحو الهويات الأصلية، هذا الارتداد الذي قد يصل إلى التطرف يوماً ما كرد فعل على وصول الأحزاب العنصرية إلى السلطة وظهور أصوات متطرفة تدعو إلى نبذ الآخر في السويد.
عندما يصاب المرء بالسرطان فأول ما يحتاجه بالتزامن مع العلاج هو الدعم النفسي، يحتاج إلى أصدقاء حقيقين، يجيدون الإصغاء لا التعاطف، أما البلاد التي لا صديق فيها فقد قال عنها المتنبي منذ زمن طويل
شر البلاد مكانٌ لا صديق به وشر ما يكسب الإنسان ما يصم
ومع غياب الأصدقاء يعود المرء المريض المنهك إلى وكره الصغير والدافئ، حيث بمقدوره أن يجد التفهم والمواساة، يلجأ المتعب إلى البيت، إلى العائلة التي من المفترض أن تقدم الطمأنينة في هذه الرحلة الشاقة.