أنور عمران – الناس نيوز ::
كلنا نعرف قصة الغراب الذي حاول أن يقلد مشية الحمامة، وبعد فشله نسي مشيته الأصلية، فصار يتعثر كلما حاول أن يمشي، وهذا بالضبط حال بعض المهاجرين الذين وصلوا إلى أوروبا، هذا البعض، ومنهم أنا وعائلتي، عاش ويعيش الاغتراب مضاعفاً، فهو منبوذ أو بعبارة ألطف لا يجد مكاناً بين جيرانه المهاجرين، كما أنه غير قادر على التواصل بطريقة صحيحة وصحية مع الأوروبيين.
أغلب هؤلاء المتعثرين هم من العاملين بمجال الثقافة في بلدانهم الأصلية، أو من دعاة الحداثة بغض النظر عن مجالات أعمالهم، وأغلبهم كان بالأصل مثار تساؤل واستهجان من قبل السلطات السياسية والاجتماعية والدينية في الأوطان الأصلية، وبالرغم من امتلاك هؤلاء طريقة تفكير مغايرة نسبياً إلا أنهم اعتمدوا وسائل مقاربة بالمعنى العام للوسائل التي اعتمدها البقية الذين لجؤوا إلى الغيتوهات من أجل حماية الهوية، فمعظم هؤلاء بالغوا في تقليد الثقافة الجديدة كما بالغوا في انتقاد ثقافتهم القديمة، وفي توجيه اللوم لأبناء جلدتهم الذين يشاركونهم المهجر وفي تحميلهم مسؤولية الصورة المغلوطة المتداولة عن المهاجرين وتبرئة الأوروبيين من التنميط، كما أنهم نظروا وينظرون إليهم باستعلاء، ولكنهم بالنهاية لم يتمكنوا من العيش في الأحياء التي يسكنها الأوربيون لأنهم يحملون أسماءهم وملامحهم التي تدل على انتمائهم بكل وضوح، وهذه الأسماء والملامح في الحقيقة هي المفاتيح الأولى التي يتعامل بواسطتها الأوروبي مع المهاجر عندما يتعلق الأمر بالعمل، كما أنه يتقن التعامل بواسطتها جيداً ي أماكن أخرى وقت اللزوم.
العيش على الحافة، هذا تعريف ما يفعله هؤلاء، وخلافاتهم القديمة مع أفكار مجتمعاتهم الأصلية، والتي لم يزدها الاحتكاك مع الغرب إلا كثافةً وانغلاقاً، كل ذلك أدى إلى انزياحهم وقد نستطيع أن نقول أيضاً تزلفهم للثقافة الجديدة، وبسبب إدراكهم أن الأوروبي يملك مفاتيحه الجاهزة، فقد قرروا أن يفكوا ارتباطهم مع الشكلانيات التي تعيق الوصول إلى الآخر واستحضار نقيض هذه الشكلانيات، ربما بما يفوق القدر الذي تمترس فيه سكان الغيتوهات بالشكلانيات التي تبرز الهوية بجلاء، ولكن المشكلة التي واجهتهم أنهم هم أيضاً لا يمكنهم أن يعيشوا خارج هذه الغيتوهات بالمعنى الجغرافي، وبذلك صاروا معروفين وواضحين من خلال طريقة لباسهم، أو طريقة حديثهم، أو اقتنائهم للحيوانات الأليفة، أو مثلما فعلت زوجتي السابقة على سبيل المثال حين لم تمانع من أن يأكل أطفالي لحم الخنزير في روضة الأطفال، وبالطبع لا داعي أن أشير إلى أن الخبر انتشر في الحي انتشار النار في الهشيم، وكانت النتيجة ببساطة أنها طيلة إقامتها في الحي لم تحظَ بصديقة واحدة.
الضغوط والمشاكل النفسية التي عاشتها وتعيشها هذه الفئة كانت في الحقيقة أكبر بأضعاف مما عاشه الآخرون الذين ركنوا إلى الحلول البسيطة والمألوفة، فهم أساساً لم يتغيروا وهذا بالضبط مصدر سعادتهم وفخرهم، وبحفاظهم على مرايا ماضيهم استطاعوا أن يؤسسوا ويفهموا مجموعة القيم التي تحكم علاقتهم والتي يستمدون منها قيمتهم وأحكامهم، فالزواج والطلاق وإدارة الأسرة أمور ظلت تماماً كما كانت في الوطن الأصلي، من دون محاولة الاستفادة من القوانين الجديدة ومن هامش الحريات الواسع، أما الفئة المعنية بالحديث فقد عاشت حالة النوسان الحقيقية، بين مشية الحمامة ومشية الغراب، حتى أن المبالغة بالتزلف وصلت بالبعض إلى التخلي عن حقوقه التي يمنحه إياها القانون، من أجل إظهار الدماثة والكرم والتي هي بكل الأحوال أشياء لا يمكن أن يفهمها الأوروبي أو يبررها في هذا السياق، وهنا أذكر أن أحد الأصدقاء اعتذر من إحدى الشركات التي قدمت له منتجاً مخالفاً للمواصفات لأن ابنه طالب بتصحيح الخطأ، ولكم أن تتخيلوا سعادة الشركة بما حدث.
يتبع…