د. محمد حبش – الناس نيوز ::
وفي النهاية، أغمض عينيه، ورحل…
بعد ثلاثة وتسعين عاماً من الصخب والصياح، والصلابة، والصمود، والصبر، وكل مفردات الصاد إلا الصمت، فقد كان رياض الترك شاهدَ عصرٍ بحاله، وفي العناء السوري، في العهدين المُظلمين، لم يكن في السوريين مَنْ هو أوضح منه حجّةً وبياناً واستعداداً لدفع ثمن مواقفه والإخلاص لمنصّة الحرية.
ليس هذا المقال في ترجمة حياة رياض الترك، فهي سيرة يعرفها الجميع، وهو مانديلا السوريين وهو ابن العم، وهو طليعة الشيوعيين السوريين، وهو المعارض الأبدي لسياسات عبد الناصر والكزبري، وأمين الحافظ، وصلاح جديد، والأتاسي، والأسد الأب والأسد الابن، والآتين من بعدهم، فقد فُطر على الكلمة التي تكرهها الملوك، ويقشعرّ منها الاستبداد، وهي كلمة الحرية وهو أبو المعارضين السوريين وصوتهم، وهو عميد السجناء من أجل الحرية، وأشهرُ نزيل في سجون الاستبدادات، وأهم أصوات الحرية والكرامة في سوريا .
ولكن الرجل الذي لم تسجّل له لحظة وفاق مع الأنظمة الاستبدادية الحاكمة، لم يسجّل له لحظة خلاف مع الأصوات الهادرة من أجل الحرية، رغم اختلافه معهم جذرياً في قراءة الكون وتفسير الطبيعة، ولكنه كان يرى الحرية غفراناً لكل ذنب، وفردوساً لكل عشق، وروحاً لكل ثورة، وفي سياق ذلك، فقط كان يشعر بروح الرفيق مع أن الله طبعَهُ مختلفاً منفصلاً في كل شيء.
يمضي اليوم رياض الترك بعيداً جدّاً من أحلامه التي تمنّاها لسوريا، وغريباً عن أرضها وترابها، ولم يدخل بعد، كما يستحقّ في مناهج الدراسة والتعليم في سوريا، ولا زال الاستبداد يؤطّر كُتبَ التعليم المدرسي نظاماً ومعارضة، بعبادة الفرد من الغلاف إلى الغلاف، ولكن هذا الواقع سيتغير بكل تأكيد، وسيدخل رياض الترك في مناهج الدراسة؛ يوم تتّجه إرادة التعليم إلى بناء جيل يعبد الحرية، ويقدّس الإنسان.
إنه بالفعل الدرس الذي يحتاجه السوريون ليجنّبوا بلادهم هذا المصير الأسود الذي قُتلت فيه الأحلام والآمال والأنفس، لقد كان كل ما جرى ثمرة طبيعية لجيل تمّ تعليمه منهاجياً، تقديس الاستبداد وتبرير الاستعباد، وبات يُسبّح بحمد حكّامه الفاشلين الخائبين، وحين ثار الشعب وصاح بالتغيير، كان الاستبداد قد وفّر حوله جيلاً من الذين يؤثرون السلامة على قول الحقّ، والنجاة على الإبحار، والطعام على الكرامة، لم يسمعوا برياض الترك، ولا ما يحزنون، وكان في هذا النوع من الخانعين للأسف شيوعيون ورأسماليون ومؤمنون وملحدون وملتزمون وفاسقون، جمعهم الاستبداد تحت خرافات السيادة الوطنية، وقامر بأرواحهم في مواجهة أهلهم وإخوانهم، وكانت النتائج هي الكارثة التي عاناها كل سوري تحت الأنقاض وفوق الأنقاض، وأشدّها ألماً وقهراً أنه مأمورٌ أن يرى الكارثة انتصاراً، والاستبداد سيادةً وطنية.
لم أكن قريباً من رياض الترك، ولم ألتقِ به يوماً، لكنني قرأته باستمرار سطراً في كل نشيد حرية، وعرفته ضميراً لاهباً تشقق منه عنابر السجون، وكانت جرعة من إطلالاته القليلة على وسائل الإعلام كافية أن تعلّمني درس الكرامة الصحيح، وأن تجعلني أشعر بالخجل من كل ممارسة بلهاء كنّا نعمى فيها عن جرائم الاستبداد، ونسبّح بحمدِ سيادتنا الوطنية، ثم نحمد الله على نعمة الإسلام، والسكنى بالشام، والعيشة بالصالحية!!.
وعلى الرغم من أن الرجل كان محجوبَ المنابر عن شعبه، فقد حجبها الاستبداد مرّة، وحجبها التعصّب مرّة أخرى، وحجبها الحسد مرّة ثالثة، ولكنه أوصل رسالته لطلّاب الحرية، وكان بالفعل يفتقر للمداراة والدبلوماسية، فقد كانت المداهنة والمداراة عنده بمعنى واحد، وكذلك الدبلوماسية والاستخذاء، ولا نكاد نجد ثائراً أولى بكلمة نيتشه منه، حين قال: “إننا نخطئ حين نتصوّر أن قول الحقيقة سيقرّبنا من الناس، إن الناس يمجّدون مَنْ يزخرف لهم أوهامهم، ويصمّم لهم أحلامهم، أما الحقيقة الكاملة فلا يقولها إلا الذين يريدون الرحيل”.
عاش رياض الترك ثمانين عاماً، وهو ينوس بين منصّة الموقف وعتبة السجن، ولم يحصل أن أطلقه سجّان على سبيل الوداع، بل كان سجّانوه يودّعونه دوماً بعبارة إلى اللقاء، حيث كان اللقاء القريب قادماً، فقد كان ما يلفظ من قول إلا لديه رقيبٌ عتيد، وتقرير جديد، واعتقال أكيد، وهكذا قدّم فلسفته لمحبّيه: الحياة اعتقالات وإفراجات، وهذا هو ديالكتيك الحياة الأكيد القائم على الجدل المتلاطم.
ليس رياض الترك معجزةً ولا بدعاً من الثائرين، ولا هو حجّة الله على خلقه، إنه ببساطة إنسان عادي تماماً، يعيش مثله ملايين في الدول الديمقراطية الناجحة، وكان ينبغي أن ينظر إليه كمستشار مجاني يشرح عيوب الاستبداد وأخطاءه، ويوفّر فرصة الإصلاح، وهذا ما يحصل في العالم الديمقراطي كل يوم، وفي كل ساعة يظهر رياض جديد، ولولا هؤلاء الناقدين لما انتهى الاستبداد، ولا قامت للحرية قناة، ولا اطمأنّت الشعوب السعيدة، لقد كان يعيش ببساطة، كما لو كان مهاجراً سويسرياً يعيش في أنظمة حكم تنتمي إلى عصور الملك الإله في العصور المظلمة.
بقي أن أقول هل كان الترك رحمه الله معنياً بما نتمناه له من رغد الجنة، ونعيم الدار الآخرة؟ ليس سرّاً أنك لن تجد له شيئاً مكتوباً في هذا، ولكننا ننعي الناس على قدّ أمانينا، وليس على قدّ فلسفتهم، وإذا كان النعيم الأبدي قد أعدّ لأحد فإنه بكل تأكيد للطيّبين الذين يحبون الناس، ويعملون للخير الإنساني، والله أكبر من أن يكون قاضي انتقام بعد انقضاء العالم، وحاشا لله أن يكرّر ما يفعله الاستبداد بمعتقلي الرأي، وهو أكرم من أن يخنق عبده بمظلمتين، وهو الرحمن الرحيم الذي وسعت رحمته كل شيء.
حاولت أن أبحث عن ورقة النعي التي تمّ اختيارها لرحيل رياض الترك، فورقة النعي عادة هي لوحة في ضمير الراحل، وقبل سنوات ناقشت جامعة أكسفورد رسالة دكتوراه في كتابات الراحلين على شواهد القبور! فلا تستقرّ كلمة على لوحة القبر، إلا إذا كانت للراحل نشيداً وقصيداً ونجوى قلب، فالرجل كان يحبّ لقب ابن العم، وهو أقرب الألقاب إلى فلسفته في الإخاء الإنساني وانتمائه للكل، وبالفعل، فقد اختارت له ابنتاه الرائعتان نسرين وخزامى من نشيد حياته كلمات أبي العلاء:
- ولو أني حُبيت الخُلد فرداً *** لما أحببتُ بالخُلد انفرادا
- فلا هطلت عليّ ولا بأرضي *** سحائب ليس تنتظم البلادا