وائل السوّاح – الناس نيوز ::
كم اختلفنا معا، وكم اتفقنا معا، وكم ضحكنا وبكينا وغنينا معا. مات حسّان عزّت. الشاعر الجميل الذي كان يسكن بين الكلمات والصور، يعيش القصيدة قبل أن يكتبها، وفي أحايين كثيرة يعيشها ولا يكتبها. لا يمتّ بصلة إلى فوضى الشعراء وبوهيمية الفنانين. أنيق، نظيف ومرتّب، كما هي قصائده وكتبه. كان لديه في بيته في بستان البختيار غرفة، لا يدخلها الغبار ولا البشر، إلا نخبة من أصدقائه.
حين سمح لي أول مرة بالدخول إليها، دخلناها كاهنين بوذيين يتسللان إلى معبدهما. سحرني الجو الكئيب، النظيف المرتب. كلّ الكتب كانت مغلّفة بلاصق من النايلون الأزرق الحزين.
في تلك الغرفة استمعنا إلى الشعر والموسيقى واتفقنا واختلفنا في قصيدة النثر وقصيدة التفعيلة وفي النقد، قرأنا رامبو وبودلير وويتمان وأدونيس وسليم بركات، وخضنا في السياسة والفلسفة والدين.
كان حسّان ليبرالياً متحمساً في أفكاره الدينية والفلسفية والاجتماعية، وكنت أبدو إزاء تحرّره متزمّتاً قليلاً.

تعرّفت إلى حسّان عزت في مهرجان للشعر والقصّة في جامعة دمشق. لسبب لا أفهمه، سمّى اتحاد الطلبة المهرجان باسم “مهرجان عكاظ.” وكان لديّ عشرون سبباً لأكره الاسم، وتردّدت في المشاركة فيه، ولكن صديقي الصحفي عدنان جرجوس أقنعني. كنّا في مقهى الإيتوال قبالة مدرسة الفرانسيسكان. “ما لك وللاسم؟” سألني، “سيكون ثمّة جمهور كبير.” وهائل، النادل الذي كان يمهلنا في تسديد ثمن ما نشرب، والذي كان يضع فنجان قهوتي على الطاولة، هزّ برأسه موافقاً من دون أن يعرف ما القصّة، فاقتنعت.
اشتركت بقصّة عنوانها “لماذا مات يوسف النجّار” ستكون عنواناً لمجموعتي القصصية الأولى بعد ذلك بسنتين. حين ألقيت قصّتي في مقصف الأزروني المركزي بجامعة دمشق، شعرت بتقبّل جميل من الحضور.
كانت القصة حول مدرّس رسمٍ يعلّم أطفال قرية رسم السكاكين بدلاً عن الأزهار، فيحاول رئيس الشرطة أن يثنيه عن ذلك، وحين يفشل يقتله. بعد أن ألقيت قصتي، نهض إلى المنصة شاب أسمر نحيل، أجعد الشعر، بعينين سوداوين حالمتين، يتنهد؛ فتخرج من صدره زفرات طويلة متقطعة، تنبئ عن حزن دفين. ألقى حسان قصيدة بعنوان “الغزال الاسكندراني والحواة.” وكانت شيئاً جديداً بالفعل، في تركيبة الجملة الشعرية وتدفق الصور الغريبة. ولا ينبغي أن تحب شعر حسان عزت لتعترف أنه نسيج وحده في الشعر، لم يقلّد أحداً ولم يستطع أحد أن يلده.

لجنة تحكيم القصة تألفت من القاصّين العظيمين زكريا تامر وسعيد حورانية. لجنة تحكيم الشعر تألفت من الشعراء علي الجندي ومحمد عمران وفايز خضور.
يوم إعلان نتائج المسابقة، ذهبتُ إلى الإيتوال. لم أكن أرغب في حضور الاحتفال لأنني كنت واثقاً من أنه لن يكون لي مكان بين الفائزين، وبين المشاركين قصّاصون معروفون، بينهم القاص الفاتن عادل حديدي. في المقهى، رأيت عدنان، صديقي الذي أقنعني أساساً بالمشاركة. قال لي: “وماذا ستخسر؟ تعال نتسلَّ!” وهزّ هائل برأسه موافقاً. ذهبنا معاً، وجلست في آخر القاعة. سعيد حورانية أعلن النتائج، وكانت القصة الفائزة بالمرتبة الأولى قصة “لماذا مات يوسف النجار”، وحلّ عادل حديدي ثانياً. فيما بعد توطدت علاقتي بعادل، وصرنا زبونين مداومين في مطعم الريّس قبل إغلاقه، ولكن يومها لم يتلقّ عادل النتيجة بروح رياضية. في الشعر، فاز حسّان عزت، ولم يكن فوزه مفاجأة. تسلّم كلّ منا هديته: علبة من الموزاييك فيها لوحة نحاسية مكتوب عليها اسم الفائز والتاريخ. خرجت من مقصف الأزروني صحبة صديقي عدنان، وكنت ثملاً قليلاً بالفوز، وكانت نسمات آذارية منعشة تلفح وجهينا. سمعت أحدهم ينادي اسمي: “وائل!” التفت. كان حسان، يسير صوبي مسرعاً وبيده علبة الموزاييك. ابتسم وقال: “هناك خطأ في العلب. أعطوني علبتك ويبدو أن علبتي معك.” فتحت العلبة فوجدت اسم حسّان عليها. ضحكنا. تبادلنا العلبتين. ولوّحت مودعاً، ولكنّ حسان قال: “شو رأيك بقهوة في بيتي.” اكتشفت أن بيته يبعد عن بيتي الذي أسكنه خمسين متراً فحسب. وفنجان القهوة ذاك كان مفتاحاً لعالم من الثراء والمودة والصحبة الجميلة.
وحين طُلبت من قبل مخابرات أمن الدولة لاحقاً، وكان عليّ أن أتخفى، كتب حسّان قصيدة أسماها “مزمور العاشق واو” وأهداها لي. ثمّ بعد اعتقالي لحّنها وغنّاها الصديق سميح شقير، وحين أطلق سراحي، غناها في سهرة ضمتنا وثلّة كبيرة من الصحب:
كيفَ خلّفتَ وعودَ “الصالحيّة”؟
أينَ خبّأتَ زهورَ الياسمين
وتباعدتَ عن الصَحْبِ قليلاً
وعشِقتَ البندقيةْ
واستثارتك أحاديثُ الشجر
وتعابيرُ القُرُنْفُلِ
أينَ خبّأت الطفولة
أين خبَّأت العناقاتِ الطويلة؟
دمشقُ قد تمشي مع من يشاءْ
وقد تعطي جسدها لمن يشاءْ
إلاّ حُبِّها
فهو للعاشق “واو”
كان حسان شريكنا في “الكرّاس،” حسان وجميل حتمل وفادية اللاذقاني وبشير البكر وفرج بيرقدار وخالد درويش ورياض الصالح الحسين وأنا، نصدر كراسة أدبية شهرية، للكتابة غير الرسمية.
قلنا: نريدها كتابة خارج النص وخارج القوانين وخارج الصحافة الرسمية. وكنا نطبعها على الآلة الكاتبة، ثم نصورها على الورق الحساس (جستتنر) ثم نطبعها، ونجمع الأوراق سوية ونخرزها، وننطلق إلى الجامعة ومقاهي الأدباء والشوارع؛ لنبيعها بليرة سورية واحدة.

وكتب معنا ممدوح عدوان وعلي الجندي وفرج بيرقدار ومحمود شاهين وخالد درويش، ورسم معنا يوسف عبدلكي وسعد يكن وألفريد حتمل، وقرأَنا كلُّ من كان مهتماً، وقلبه علينا، خوفاً من زنزانة طائشة قد تصيبنا.
وقد أصابت رياض بالفعل، حيث اعتقل لبضعة أسابيع، وحقق معه في شكل الكراس ومحتواه، ثمّ أصابت خالد درويش وفرج بيرقدار، فاعتقل الاثنان زمناً.
كان هدفنا من الكرّاس الخروج عن سلطة الرقابة وسلطة الشعر التقليدي وسلطة الأحزاب السياسية المهيمنة على الأدب والفن، الأحزاب التي فرضت علينا أيمن أبو شعر شاعراً كبيراً ورائق النقري فيلسوفاً معاصراً. لم تكن الصحافة تنشر قصائدنا وقصصنا، فقلنا، “ننشرها نحن،” وفعلنا، مخلّفين وراءنا موجة نقدية أعطت ما كتبناه حقّه وقتها.
في الكرّاس نشر بشير أجمل قصائده آنذاك، ثمّ جمعها في ديوان أول، وأعطاها لصديق له فنان لكي يصمّم له غلافه، فأضاعها الصديق.
وفي الكراس أيضاً، نشر رياض الصالح الحسين أول قصيدة له: خراب الدورة الدموية: وقد أثارت لحظة ظهورها لغطاً حاداً، وانقسم الناس انقساماً حاداً بين مرحب بالقصيدة ورافض لها. فأما المعارضون فقالوا: هذا مهرطق، يصفّ كلماتٍ بجانب كلمات؛ ليكتب شيئاً أشبه بالكفر، وأما المؤيدون فقد اندهشوا بحرارتها وبساطتها ومقدرتها الهائلة على الوضوح المستحيل.
مات حسان عزت: شاعر شجر الغيلان الباحث عن قمر، صديق الشباب الاول، رفيق المشاوير المسائية وكأس الشاي في غرفة مكتبته في منزل الأسرة في بستان البختيار، ينقلني وراءه على دراجته التي أطلق عليها اسم “روزينانتي” تيمّناً بفرس دون كيخوته ونذهب بعيدا في طريق الشعر والفلسفة والتصوف.
وطن الدخان والسرخسيات
دلّني على راية لم تُغزل من غبار الأحذية.
نبذة مختصرة عن الراحل
ولد عزت عام 1949 في مدينة دمشق، حيث نشأ وتعلم، ثم تخرج في جامعتها. منذ بداياته الأولى، اتجه إلى الصحافة الثقافية، مشاركًا في تأسيس عدد من المنابر الأدبية مثل: المنارة، انفينيتي، المطهر، إلى جانب مساهماته في الكتابة والنقد الشعري.
ولم تقتصر تجربته على الشعر المكتوب فقط، بل خاض تجارب مشتركة مع المسرح، مقدمًا أمسيات شعرية مصحوبة بالموسيقى والغناء في مدن عربية وأوروبية، منها دمشق، القاهرة، الشارقة، دبي، فالنسيا، وغيرها.
كما عُرف بنشاطه ضمن لجان التحكيم للمسابقات والمهرجانات الشعرية والمسرحية، وكان من بين الأعضاء المشاركين في لجنة جائزة محمد بن راشد آل مكتوم للسلام العالمي.
الراحل كان زوجًا للكاتبة والإعلامية فاتن حمودي، ووالدًا للفنانة التشكيلية الراحلة إيفا عزت (حواء حسان عزت)، التي توفيت أواخر 2022 عن عمر 39 عامًا، وترك رحيلها أثرًا بالغًا في كتابات والدها، التي ظلت تستحضرها بشكل متكرر.
ومن بين المواقف اللافتة في مسيرته، أن غلاف ديوان “جناين ورد” الصادر عام 1998 حمل رسمة لإيفا، رسمتها وهي في السادسة من عمرها، قبل أن تدخل عالم التشكيل وتصبح من أبرز أسمائه.
ومن أبرز أعماله الشعرية والأدبية: شجر الغيلان في البحث عن قمر العام 1981، وتجليات حسان عزت عام 1983، وزمهرير العام 1985، وجناين ورد العام 1998.



الأكثر شعبية


خارطة طريق غاز ونفط سوريا… من الدمار إلى الإعمار؟

