دمشق – الناس نيوز :
د . سامي مبيّض (الأهرام، 10 تشرين الثاني 2021)
فى 29 سبتمبر عام 1961، شكّلت حكومة الرئيس مأمون الكزبرى فى دمشق بعد يوم واحد من انهيار جمهورية الوحدة مع مصر، وعُين فيها المصرفى الشاب نعمان الأزهرى وزيراً للتخطيط.
كان الأزهرى يملك ويُدير مصرفاً شهيراً يسمى بنك الشرق العربى الذى تم تأميمه مع كل المصارف السورية فى تموز (يوليو) 1961.
وكان سليل عائلة الأزهرى العريقة ومتزوجا من عائلة هارون السياسية، وكلتاهما من العائلات الكبرى فى مدينة اللاذقية.
وبعد تجربته القصيرة فى وزارة التخطيط، عُيّن الأزهرى وزيراً للمالية والتموين فى حكومة الدكتور عزّت النص يوم 21 تشرين الأول (اكتوبر) من العام نفسه للإشراف على الانتخابات النيابية والرئاسية، والتى أدت إلى فوز الدكتور ناظم القدسى برئاسة الجمهورية خلفاً للرئيس جمال عبد الناصر.
توفى نعمان بك فى نهاية أكتوبر الماضى فى بيروت، ولم ينل حقه من الرثاء اللائق بسبب وفاة المطرب السورى الكبير صباح فخرى بعد أيام، الذى سرق أضواءالصحافة والإعلام.
وقد نعته صحف لبنانية كأحد أساطين القطاع المصرفى، ذلك القطاع الذى أعطى لبنان لقب سويسرا الشرق فى ستينيات القرن الماضى، قبل أن ينهار فى السنوات القليلة الماضية.
أمّا فى سوريا، للأسف، فلم يأت أحد على ذكر الراحل، لا من المصرفيين أو من وزارتى التخطيط أو المالية اللتين كان قد تقلد حقيبتيهما قبل سنوات طويلة.
ولد نعمان بك، فى مدينة اللاذقية وهو ابن وجيه الأزهرى، أحد أعيان زمانه الذى عمل فى بيروت نهاية الحكم العثمانى رئيساً لديوان الوالى التركى، قبل ان ينتقل إلى العمل التجارى فى «شارع فوش» الشهير.
تزوّج الأزهرى الأب من سيدة بيروتية تُدعى رمزية سوبره سنة 1917، وعاد معها إلى اللاذقية لدى تعيينه محافظاً عليها سنة 1924.
درس ابنه نعمان فى مدرسة الفرير ثم فى جامعة بيروت الأمريكية لمدة عام. بعد ذلك، شدّ الرحال إلى فرنسا لدراسة العلوم السياسية والمالية فى باريس، وتخرج سنة 1949 حاملاً شهادة دكتوراة فى الاقتصاد.
التحق فور تخرجه بـ البنك الجزائري- التونسى (CFAT) وهو مصرف فرنسى مؤسس فى الجزائر منذ عام 1880.
كانت قيمة رأس مال المصرف خمسة عشر مليون فرنك فرنسى، وله 142 فرعاً فى مدن العالم كافة، بما فيها دمشق التى فُتح فرع له فيها فى ساحة الحجاز مقابل فندق أورينت بالاس سنة 1928.
عمل الأزهرى فى هذا المصرف طيلة سنتين، إلى ان قررت إدارته نقله إلى بيروت. وكان فرع بيروت من البنك الجزائري- التونسى من أشهر المصارف العاملة فى لبنان يومها، يملك معظم أسهم شركة الريجى وفندق سان جورج الشهير على شاطئ بيروت.
عُيّن الأزهرى مراقباً على عمل المصرف فى سوريا، قبل أن ينتقل إلى بنك لبنان والمهجر الذى شارك البنك الجزائرى الفرنسى فى تأسيسه فى 16 حزيران 1951.
مؤسس البنك كان الحاج حسين عوينى، رئيس وزراء لبنان، ومعه الوزير فيليب تقلا والشريك السعودى الشيخ إبراهيم شاكر واللبنانى الشيخ بطرس خورى، صديق الرئيس كميل شمعون.
وقد كُلّف الأزهرى بالسفر إلى السعودية للإشراف على تأسيس فرع بنك لبنان والمهجر فى مدينة جدة سنة 1954، مما أكسبه خبرة مصرفية كبيرة.
عاد بعدها إلى سوريا، وعمل مديراً لفرع دمشق ثم لفروع المصرف فى المنطقة الشمالية قبل أن يؤسس شركة سورية لشراء البنك الجزائرى التونسى بفروعه الثلاثة (دمشق واللاذقية والقامشلي)، مع احتفاظ الشركة الفرنسية الأم بثلاثين فى المائة من قيمة المصرف. وأُعيدت تسميته «بنك الشرق العربى» ليكون أول مصرف سورى يظهر فى دمشق فى مطلع عهد الوحدة مع مصر سنة 1958.
وقد ألهمت هذه التجربة الناجحة تأسيس مصرفين اثنين فى دمشق، كان الأول بإدارة الدكتور ناظم القدسى ويُدعى بنك العالم العربي. الثانى اسمه المصارف المتحدة الذى ترأسه الدكتور عوض بركات، احد مؤسسى مصرف سوريا المركزى والذى أصبح وزيراً للاقتصاد فى زمن الانفصال.
مؤسس المصارف المتحدة كان رجل الأعمال الدمشقى محمد الميدانى، وكان شقيقه موقف الميدانى مؤسس بنك العالم العربى مع شريكه الدكتور عثمان العائدى، الذى توفى قبل أسابيع قليلة فى بيروت.
لدى تأميم المصارف فى سوريا، أبقى الرئيس جمال عبد الناصر على نعمان الأزهرى فى إدارة بنك الشرق العربى، لكن أمر بدمجه مع مصرفين آخرين، الأول ضخم فى حلب، ويدعى بنك حمصى، والثانى فى اللاذقية للمصرفى الأرمنى أرتين ماكاناجيان.
وكانت لقرار التأميم آثار كارثية على الحياة الاقتصادية فى سوريا، وقد ترك جرحاً نازفاً فى قلب نعمان الأزهرى، ظلّ يرافقه حتى رحيله.
بعد تجربته القصيرة فى الحكم، انتقل الأزهرى إلى بيروت كسائر المصرفيين السوريين، وأصبح مديراً لـ مصرف لبنان والمهجر فى تموز 1962، قبل أن يخلف الحاج حسين عوينى فى رئاسة مجلس الإدارة من سنة 1971 حتى وفاته منذ ايام قليلة.
ولقد فاتح رئيس الجمهورية ناظم القدسى بقرار سفره إلى لبنان وقال: أنا رجل اقتصاد ولست رجلا سياسيا. قل لى، هل الأوضاع مستقرة فى سوريا لأبقى؟ رد الرئيس القدسى بطريقة دبلوماسية وقال: أعرف أن لديك أولادا صغارا والمدارس فى بيروت ربما أفضل.
فى بيروت تمكن الأزهرى بالنهوض ببنك لبنان والمهجر، ليكون من أشهر وأنجح وأقوى المصارف اللبنانية والعربية.
وقد تخرج العديد من المصرفين العرب من تحت يدى الدكتور الأزهرى، وأصبح عراباً للمصرفيين والاقتصاديين السوريين الهاربين من التأميم فى بلادهم، ومنهم الدكتور عزت الطرابلسى، مؤسس مصرف سورية المركزى ووزير اقتصاد فى زمن الانفصال، الذى أصبح مستشاراً للمصرف فى التسعينيات.
بغيابه تفقد سوريا، كما يفقد لبنان، علماً من أعلام النهضة المصرفية وقامة اقتصادية فذّة، يصعب على التاريخ تكرارها أو نكرانها.