د . خالد عبد الكريم – الناس نيوز :
صباح الأربعاء الماضي ، فُجع اليمنيون برحيل أحد رموزه السياسية والإدارية والدبلوماسية. الشخصية الوطنية ذات المواقف المعتدلة. السياسي والدبلوماسي اليمني محسن أحمد العيني، أول وزير خارجية في اليمن الجمهوري، ورئيس وزراء لأكثر من مرة.
سياسي مرموق، دبلوماسي متمكن، كان سفيراً لليمن في الأمم المتحدة، الولايات المتحدة، الاتحاد السوفييتي، فرنسا، بريطانيا، ألمانيا.
محسن أحمد العيني صاغ مذكراته في كتاب (خمسون عاما في الرمال المتحركة). مذكرات سطرها بتواضع اليمني البسيط، تواضع اليتم الذي عاشه، والعصامية التي نشأ عليها. يقول في مطلع الكتاب: “إنها قصة نصف قرن من حياة مواطن، في عهد الإمامة والثورة، والحرب الأهلية والمصالحة، والانقلابات العسكرية والأحداث في العواصم العربية.
إنها قصة من لا يزعم أنه مناضل أو زعيم، سياسي أو دبلوماسي. قصة مواطن عادي وجد نفسه في قلب أحداث لا خيار له في خوضها، أو البعد عنها وتجنبها. مواطن وجد نفسه في مواقع مختلفة، فحاول أن يكون صادقاً، وأن يقدم خير ما في نفسه، وقد أكرمه الله فحماه من الاعتقال والسجن والتعذيب والامتهان”.
عشرة فصول في 407 صفحات، كتب العيني قصته كما يراها لا تباهياً بما فعل ولا دفاعاً ولا إدانة لأحد، وإنما شعوراً منه بالواجب نحو الأجيال، إن قدر لهم أن يقرؤوا (حسب تعبيره)، وإن حاولوا معرفة بعض جوانب ما جرى في الستين سنة الماضية من تاريخ اليمن.
الكتاب يتحدث في فصله الأول عن نشأة محسن العيني عن فقدان الأم، ثم الأب، ثم الأخ الأكبر. عن قريته بداية الثلاثينات من القرن الماضي، التي تبعد نحو خمسة عشر كيلو متراً عن صنعاء. ومن ثم بداية العمل الوطني من مكتب الأيتام والمتوسطة بصنعاء، وابتعاثه للدراسة في لبنان ومصر خمسينيات القرن الماضي، وانتقاله للدراسة في باريس في كلية الحقوق جامعة السوربون 1956.
الحي اللاتيني جمعه بالعشرات من المثقفين العرب والصحافيين الفرنسيين، كان هناك الديغوليون والماركسيون والشيوعيون. كتب العيني “الحي اللاتيني عالم يندر أن تجد له مثيلا، هنا أدركنا ووصلنا الى ما وصل إليه قبلنا ميشال عفلق وصلاح البيطار وزملاؤهما من أن العرب في حاجة الى الوحدة والحرية والاشتراكية”.
الفصل الثاني كتبه محسن العيني عن ثورة سبتمبر 1962 كتب كيف وصله نبأ تعيينه وزيراً للخارجية في أول حكومة يمنية “بينما كنت أتناول العشاء ضيفاً على اتحاد عمال العراق مساء الجمعة 28 سبتمبر/أيلول 1962، إذا بسيارة اللواء عبد الكريم قاسم تصل لتنقلني لمقابلته في وزارة الدفاع حيث كان يقيم ويعمل. وقد ذكر لي أن ثورة قامت في اليمن، وأسمعني ما سجلته وكالة الأنباء العراقية من بيانات أذاعها راديو صنعاء، بينها بيان بتشكيل الحكومة التي عينت فيها وزيرا للخارجية”.
يروي محسن العيني كيف بدأ على الفور ممارسة مهامه فاتجه إلى بيروت، ومن ثم القاهرة، ولقائه بالرئيس جمال عبد الناصر في 2 أكتوبر/تشرين الأول 1962، استقبال عبد الناصر له بتبسط وفي منزله شجعه على قول كل ما في نفسه. كتب العيني ” قلت إننا نؤمن بالأمة العربية الواحدة وبالديمقراطية والاشتراكية والعدل الاجتماعي، وإننا نفهم جيداً أن هذه هي أهداف عبد الناصر، وأهداف ثورة مصر، وأهداف الثورة العربية كلها”. وعن ثورة اليمن وعلاقتها بمصر قال العيني أخبرت عبد الناصر “أن نجاح الثورة يستدعي عدم استثارة الغير واستفزازه قدر الإمكان، ونجاحها هو الذي سيكون له أثره على الأوضاع في الجنوب والجزيرة العربية كلها”.
عن تعامل عبد الناصر معه كتب، “أشهد أنه كان معي مهذباً ورقيقا، ولم يبد عليه إلا الاهتمام، وحسن الاستماع”.
يستمر الكتاب في فصوله اللاحقة سرد مراحل ثورة 26 سبتمبر والأحداث التي مرت بها، من تجاذبات قبلية وتقلبات العلاقة مع مصر، وجهود المصالحة الوطنية بين الجمهوريين والملكيين في اليمن.
اختار للفصل السابع عنوان (مع الجنوب) وفيه يضعنا أمام حقيقة تاريخية، مفادها أن المسودة الأولى لاتفاقية الوحدة بين شمال اليمن وجنوبه كانت وقعت في 28 أكتوبر/تشرين الأول 1972 في مقر جامعة الدول العربية في القاهرة، وقعها العيني بصفته رئيس وزراء الجمهورية العربية اليمنية، وعلي ناصر محمد رئيس وزراء جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية حينها.
ومن ثم استمرت جهود اللجان الوحدوية التي تشكلت من الطرفين وفق الاتفاقية التي نصت في ذلك الوقت على تشكيل ثماني لجان مشتركة، يعين كل جانب مندوبين عنه فيها ويعطيهم توجيهاته وتعليماته.
هذه اللجان هي التي وضعت الأسس الدستورية والقانونية والاقتصادية لدولة الوحدة، وصولاً إلى الوحدة الاندماجية بين الشطرين في مايو 1990. بعد ثمانية عشر عاماً من العمل المشترك لتلك اللجان.
عن اتفاقية الوحدة التي كانت في صيغتها الأولى كتب محسن العيني، “اتفقنا على حقيقة يؤمن بها المواطنون، وتتبناها الحكومتان، وينص عليها الدستوران، وينادي بها كل مسؤول، ويرددها بيان كل تجمع”.
لم تكن الطريق ممهدة لنقلات ثورية بذلك الحجم، كان هناك معارضون لمسودة اتفاقية 1972 التي وضعت خارطة طريق تمهيداً لوحدة شطري اليمن، يروي محسن العيني “علمت أن أعضاء المجلس الجمهوري غاضبون، رافضون، ولا يرغبون في لقائي، وأن رئيس مجلس الشورى غادر تعز قبل وصولي إلى خارجها، مقاطعاً ومحرضا المشائخ والقبائل ضدي وضد اتفاقية الوحدة”.
يؤكد الكتاب عدم رغبة الشمال في الوحدة مع الجنوب بادئ الأمر، وتوجسه بل وخوفه من النظام القائم جنوب اليمن في تلك الفترة. تلك المخاوف أعاقت تحقيق أي تقدم يذكر في اللقاء الذي كان في طرابلس في نوفمبر/تشرين الثاني 1972. اضطر معها محسن العيني بعدها الى تقديم استقالته من رئاسة الحكومة في ديسمبر/كانون الأول 1972 ومغادرته الى روما.
كتب العيني، ” كان الأخ علي ناصر محمد رئيس وزراء الجنوب في زيارة لموسكو، وقد جاء الى روما ومعه أحمد صالح الشاعر سفير الجنوب في موسكو. حاول إقناعي بالاستمرار في رئاسة حكومة صنعاء، وأكد استعداد الجنوب لتحسين علاقاته مع الشمال، والسير الحثيث لتحقيق الوحدة. لكن الصورة كانت عندي واضحة. وشكرت الجميع”.
في 1973 اختير ليكون سفيراً للجمهورية العربية اليمنية في لندن. وبعد حركة 13 يونيو/حزيران 1974، التي جاءت بالرئيس إبراهيم الحمدي رئيسا للجمهورية العربية اليمنية تم استدعاء محسن العيني وتكليفه بتشكيل الحكومة مجدداً في 19 يونيو/حزيران 1974.
دبت خلافات كثيرة نتيجة استقلاليته وتقاربه مع الجنوب وإجراءات اتخذها تتعلق بتنظيم تعاطي نبتة القات، ومنعها في المعسكرات والدوائر الحكومية. ولأسباب سياسية عميقة، أقيل من رئاسة الحكومة في يناير/كانون الثاني 1974.
اختزل مسيرة 50 عاماً من العمل السياسي في أسطره الأخيرة التي ذيل بها مقدمة الكتاب “أعرف أني لم أرض أحداً. بل لعلي قد أغضبت الجميع. الجميع على غير رغبة مني. واللوم على الذين طالبوني، بأن أكتب، فما الذي كانوا يتوقعون مني أن أقول؟ رغم كل التظاهرات والانقلابات والثورات والتضحيات، واقعنا اليمني والعربي سيء. سيء باعتراف الجميع عن هذا؟
لا شك في أننا جميعا أخطأنا، وجانبنا الصواب، وإلا لما كانت هذه هي الحال. وإذا أصر كل جانب على القول أنه كان على صواب، وأن الآخرين هم المخطئون، فذلك خداع للنفس، وهروب، وعزوف عن البحث عن مخرج من هذا المأزق”.