د . محمد حبش – الناس نيوز ::
تعرفت إلى مالخاز سونغولشفيل قبل عامين في مؤتمر لحوار الأديان، أدهشني ذلك المتحدث الجورجي الذي ترك العنان للحيته حتى بلغت سرته، وكان يغشاها لباس إكليروسي أرثوذكسي غارق في تفاصيل العصور الوسطى، وقد ألقى عليه من أيقونات الليتوروجيا ما ينوء به العصبة أولو القوة، ولكن الرجل كان يتحدث بروح جديدة، ومن بين حاجبيه المتهدلين كان يطل فلاسفة عصر الأنوار، يتدفق منها إله سبينوزا ورسالة الطبيعة البشرية لديفيد هيوم وروح القوانين لمونتسكيو، وشعرت أن كل شيء هنا استثناء، وفور انتهاء ورقته تقدمت إليه وخلال عشر ثوان أصبحنا أصدقاء.
عرفت فيما بعد أن مالخاز هو أسقف الكنيسة المعمدانية الإنجيلية في جورجيا، وكان هذا خبراً مثيراً بالنسبة لي، فجورجيا أو الكرج كما يسميها المؤرخ المسلم، بلاد غامضة وصل إليها الأمويون ولكنها ظلت عصية على التغيير، وشهدت سلسلة من الحروب الدينية المريرة أيام العباسيين بين السلاجقة والخوارزميين، ثم شهدت الغزو الصفوي، وشهدت عصر القبيلة الذهبية المغولية في قازان، وكانت ممراً للحروب الطاحنة بين الروس والمغول، ثم بين الروس وتركيا العثمانية، وللأسف فإن هذه الذكريات بمجملها كرست صورة شديدة من الإسلاموفوبيا في البلد الغارق في التاريخ الذي اختار منذ القرن الرابع الميلادي المسيحية الأرثوذكسية ديناً رسمياً للدولة، وفيما اختارت أكثر من عشرين دولة أوربية أن يكون على علمها صورة الصليب فإن جورجيا وضعت خمسة صلبان على علمها الوطني واختصرت به هويتها الوطنية إلى الأبد.
تحدثنا طويلاً في التاريخ الجورجي، واستمر تواصلنا وحدثني طويلاً عن تبليسي أو تفليس كما يحب أن ينطقها مجاراة للمؤرخ العباسي ابن فضلان، ودعاني لزيارتها واستمر التواصل بيننا.
صارحته مراراً بأنني حزين لأن تبليسي أحرقت مساجدها وخاصة في العصر السوفياتي، ولم يتبق إلا مسجد أثري واحد يعود إلى القرن الثامن عشر، وقد فرض فيه محرابان إرضاء للسنة والشيعة، وهو الحل الذي اختاره السوفييت للاكتفاء بمسجد واحد في المدينة.
كتب لي مالخاز مراراً أن لديه أخباراً سارة في جورجيا وأن علي أن أذهب هناك، وبالفعل فقد رتبت عبر مركز الإخاء الإنساني زيارة خاصة لجورجيا، وبالفعل وصلت إلى كوتاسي في جورجيا ومنها انتقلنا إلى تبليسي، حيث كان اللقاء مقرراً في الكنيسة المعمدانية يوم الأحد الرابع عشر من أغسطس.
عند باب الكنيسة منتصف أغسطس/آب 2023، كان مالخاز ينتظرنا مع فريقه الكنسي من قساوسة ومرتلين وكهنة باللباس الديني الجورجي الذي يبدو أرثوذكسيا للغاية، مع أنه معمداني إنجيلي ولكن كل شيء في جورجيا استثناء.
طلب مني مالخاز أن نبدأ الصلاة بالأذان، وهكذا عقد الكهنة حلقة حولي على باب الكنيسة ينتظرون الأذان!
كانت ساعة جميلة رفعت فيها الأذان بصوتي، ومع أنهم لا يعرفون العربية ولكن من المؤكد أنهم يعلمون تفاصيل معنى الأذان، فقد علمت أنه تقليد يمارسونه كلما زارهم ضيف مسلم!
أما الدخول إلى الكنيسة فقد كان في مشهد احتفالي يتقدمه مصحف كبير وإنجيل كبير حملت الأول وحمل مالخاز الثاني ودخلنا بين الرعية في مشهد احتفالي بالغ التأثير.
كانت كلمتي في الكنيسة هي تفسير سورة مريم التي نقرؤها في المساجد كل يوم، وكنت أرتل لهم الآيات وأترجمها للإنكليزية ثم يتولى كاهن منهم ترجمتها للجورجية، وعقب اختتام كلمتي فاجأني فريق الكنيسة الكوالي بتلاوة جماعية لسورة الفاتحة بلغة عربية مشربة برطانة جورجية جميلة، وفي تجاوب صوفي رقيق تشاركنا معاً مناجاة الله تعالى باسمه العربي الله، واسمه الجورجي “غمرتو”، في أغنية عذبة جميلة شاركت فيها الرعية جميعاً، وتردد صداها بين الأيقونات والأقواس المتعانقة.
حين انتهينا من اللقاء، قال لي مالخاز: هل زرت جامع تبليسي؟ قلت نعم وأنا حزين أنه لا يوجد في تبليسي إلا مسجد واحد، قال لي لا تقلق، لقد صار اثنين! ثم فتح باباً خشبياً وهو يخلع نعليه وقال لي بالعربية تفضل!
أصابني المشهد بالذهول، فقد وجدت نفسي فجأة في قلب المسجد، ومحرابه الأيوبي الجميل المبني بأحجار العصور الوسطى، بروح المساجد الأيوبية في القرن العاشر، وقد فرشت أرضه بسجاد جوامعي ويتصدر المحراب مصحف جوامعي كبير محمول على حمالة مصحف، وقد انحرفت الصفوف قليلاً ليناسب القبلة إلى الكعبة المشرفة.
في الحقيقة كان مشهداً مفاجئاً تماماً، ونظرت إلى المحراب كأنه يناديني، وقلت لمالخاز سأصلي ركعتين، وعلى الفور تمتم بكلمات جورجية فهمت منها أنه يقول تفضل يا مولانا فأنت في بيت الله، وحين استقبلت المحراب فوجئت بأن مالخاز عقد تكبيرة الإحرام ودخل معي في الصلاة!
شعرت بالفعل بروح المسيح وطهارة العذراء ومضيت أقرا آيات المائدة التي وجدتها تصف المشهد بدقة: “ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون، وإذا سمعوا ما أنزل على الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق”.
كانت المفاجأة العاشرة أنني أكملت ركعتين وسلمت ولكن الأسقف مالخاز راح يكمل أربع ركعات، يتم ركوعها وسجودها بأحسن ما يصنعه الناسك، وكان في ركوعه يهصر ظهره حتى لو صب عليه ماء لركد، وحين أتم الصلاة قال لي: أعلم أنك مسافر فتصلي ركعتين ولكننا مقيمون ولا بد من أربع!
يوم من الدهشة والتسامح، لا ولكنه رسالة بالغة القوة أن مجتمع إخاء الأديان موجود بالفعل، وأن معابد عظيمة في هذا العالم قطعت أشواطاً رائعة في التسامح وإخاء الأديان.
هل نستطيع في شرقنا البائس أن نبني كنيسة في فناء مسجد؟ وهل سنحمل في مساجدنا الإنجيل باحترام، ونرفعه للناس رسالة مودة ومحبة؟ وهل سيقبل المتقون مبادرة من هذا النوع؟ وهل نملك أن نتشارك مع الأديان الأخرى في المناجاة والأمل والرحمة بعيداً عن ظلمات القرون الوسطى وتوحش العقائد المظلمة؟
نظرياً الأمر أسهل، وكان ينبغي أن نسابق إلى ذلك، فالإنجيل لا يعرف شيئاً عن القرآن، أما القرآن فقد وصف الإنجيل بأنه كتاب حكمة ونور، ونص أن القرآن جاء مصدقاً لما بين يديه أربع عشرة مرة.
لن يقبل ذلك أبداً حراس هياكل الكراهية في الإسلام والمسيحية على السواء، ولديهم بياناتهم الجاهزة في التكفير والزندقة، ولديهم غضبتهم المضرية الصاحبة ضد كل تمييع للدين المستقيم إسلامياً ومسيحياً على السواء، ولكن من الزاوية القرآنية يجب أن لا نتردد في الإجابة عليه ونحن نقرأ قول الله: “مصدقاً لما بين يديه من التوراة والإنجيل”، ونقرأ رسالته: “وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين”.