دمشق وكالات – الناس نيوز ::
في دير أثري معلّق بين السماء والأرض الى الشمال من دمشق، يأمل رفاق الأب الإيطالي باولو دالوليو أن يساهم سقوط حكم بشار الأسد في كشف مصير “راهب الثورة السورية” الذي فُقد أثره قبل 12 عاما.
ويؤكد كهنة وزوار دير مار موسى الواقع على رأس جبل في منطقة النبك الصحراوية، أنهم يواصلون العمل بوحي رسالة الكاهن اليسوعي في كسر الحواجز بين السوريين والتخلّص من الخوف والدفاع عن الحرية.

ويقول رئيس الدير الأب جهاد يوسف لوكالة فرانس برس “نريد أن نعرف إذا كان الأب باولو حيا أو ميتا، وأن نعرف من سَجَنه، وما مصيره”.
مع اندلاع الاحتجاجات المعارضة لبشار الاسد في العام 2011، بدأ يسطع نجم الأب دالوليو الذي كان يعيش في سوريا منذ عقود، عندما أخذ يدافع عن الديموقراطية ويرفض القمع الذي ووجه به المحتجون، ما جعل محبيه يطلقون عليه لقب “راهب الثورة”، وما جرّ عليه غضب السلطات التي طردته من البلاد في حزيران/يونيو 2012.
لكنه عاد سرّا في نهاية تموز/يوليو 2013، وبالتحديد الى المناطق الواقعة تحت سيطرة المعارضة. واختفى الكاهن الايطالي أثناء توجهه لمقابلة مجموعة إسلامية متطرفة في مدينة الرقة (شمال) في محاولة لمفاوضتها على الافراج عن مخطوفين لديها.
وصدرت تقارير متناقضة عن مكان وجوده. فقيل إنه محتجز لدى ما صار يعرف لاحقا بتنظيم الدولة الإسلامية، بينما تحدث آخرون عن مقتله على الفور، وأشار البعض الى أنه قد يكون سُلِّم الى السلطات السورية.

ولم يعرف شيء عنه حتى بعد هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا عام 2019، وشكّلت إطاحة الأسد بارقة أمل لمحبّيه.
ويقول الأب جهاد يوسف “الحريّة التي انتزعتها نضالات السوريين والسوريات” أتاحت الحديث عما كان محرما من قبل، ومنه “أنه كان لدينا اشتباه في أن يكون الأب باولو مسجونا عند النظام”.
ويتابع “انتظرنا أن يظهر له أثر (…) في سجن صيدنايا أو فرع فلسطين (الأمني). قيلت لنا أمور كثيرة، منها أنه شوهد في سجن عدرا (قرب دمشق) سنة 2019، لكنها كلها غير موثوقة”.
والأب دالوليو المولود في 1954، واحد من عشرات الآلاف من المعتقلين والمفقودين الذين يبقى مصيرهم المجهول من الموروثات المروعة للنزاع السوري.
“قلب مفتوح لكلّ الناس”
يعود للأب دالوليو الفضل في ترميم دير مار موسى الذي بني في القرن السادس، في العام 1982. ويضم كنيسة مبنية في القرن الحادي عشر.
جعل من الدير مقصدا للزوّار من مختلف الطوائف والجنسيات، وجسرا للحوار والتلاقي بين أبناء البلد الذي “قسّمه النظام السابق إلى طوائف تخاف من بعضها”، وفقا لتعبير الأب يوسف.
في العام 2010، وصل عدد زوار الدير الى ثلاثين ألفا، قبل أن تنقطع الحركة تماما مع اندلاع النزاع. لكن الزوّار بدأوا يعودون اليوم.
وتقول شذا البارة التي تقصد الدير من أجل التنعم بالعزلة والتأمل، “لم يُتح لي أن أتعرّف على الأب باولو”. وتضيف المترجمة ذات الثماني والعشرين عاما، بينما تصعد الدرجات الثلاث مئة المؤدّية إلى الدير، “أعرف أنه يشبه هذا الدير الذي يفتح قلبه لكلّ الناس من كلّ الطوائف”.
ويؤيدها الراهب السوري جوليان زكا الذي يقول إن الأب دالوليو كان من أسباب انضمامه الى الرهبنة اليسوعية، “وكذلك الفضول للتعمّق في الثقافة الإسلامية”.
ويقول “هوية هذا المكان الذي أسسه الأب باولو جعلتني أشعر أني لا أريد أن أكون كمسيحي منفصلا عن المجتمع الإسلامي”.
ويضيف الراهب البالغ من العمر 28 عاما “كان الأب باولو يناضل ضد اختصار الإسلام بالمتشددين، ويشدد على أن الحياة مع الآخر ممكنة، وهو على إيمانه وأنا على إيماني”.

مصالحة على ضفاف نهر العاصي
وأسقط تحالف فصائل معارضة تقودها هيئة تحرير الشام الإسلامية التوجه، الأسد في الثامن من كانون الأول/ديسمبر. وتحاول السلطات الجديدة طمأنة الأقليات في بلد متنوع دينيا يتلمّس طريق الخروج من رواسب نزاع دام أسفر عن مقتل أكثر من نصف مليون شخص، وعقود من الحكم بقبضة من حديد في عهد آل الأسد.
في السابع من شباط/فبراير الحالي، أصدرت الرهبنة اليسوعية في سوريا بيانا بعنوان “وطننا يتعافى” دعت فيه السوريين لبناء بلدهم بعيدا عن النظرة “المشوشة” المتبادلة بين بعض.
وتضمن بيان الرهبنة التي كان الأب باولو ينتمي لها “اعترافا” بأن الخوف “كبّلنا” في السنوات الماضية.
ويقول الأب جهاد يوسف المنتمي لرهبنة “الخليل”، “النظام كان يقدم نفسه على أنه يحمينا، في الحقيقة كان يحتمي بنا”.
وكان الحكم السابق يقدّم نفسه على أنه حامي الأقليات في سوريا، لكنه في الواقع حصر السلطة في أيدي الاقلية العلوية التي تنتمي اليها عائلة الأسد.
ويعرب الأب يوسف عن تفاؤله قائلا “أخيراً أزيح حجر الرحى عن صدورنا، أصبحنا قادرين على التنفس بعد ستين عاما من الموت السياسي”.
ويأمل في أن تشرك السلطة الجديدة أكبر عدد من السوريين في بناء مستقبل بلادهم، داعيا إلى “منحها +قرض ثقة+ ومساعدتها، مع عدم توفير أي انتقاد لازم”.
في الانتظار، يبدو مصمما على مواصلة رسالة رفيقه الغائب. ويقول “سنعود لتنظيم نشاطات كما كان يحب، منها مسيرة مصالحة وصلوات على ضفاف نهر العاصي في حمص حيث تسبّب النظام بجروح عميقة بين الطوائف الإسلامية”.
ويضيف “كان الأب باولو يرغب في تنظيم مسيرة جماعية هناك، وأن يصلي عند المقابر الجماعية، وأن يكون جسرا بين الناس، يجعلهم يصغون لآلام بعضهم البعض، ويحزنون معا، ويبكون معا، ثم يضعون أيديهم بأيدي بعض”.


