د . غادة بوشحيط – الناس نيوز ::
ما الذي يجعل حربا تخرج من فلك سجالات الأطراف المتنازعة إلى فضاء النقاش الموضوعي الذي يضع الأحقاد جانباً ويولجها فلك التاريخ البشري الطويل بأوزاره وحسناته؟ هل هو الزمن؟ هل هي قدرة الأطراف المنغمسة فيها والمعنية بها بشكل مباشر على تجاوز حيثياتها؟ أم القدرة على فتح حوار متزن وهادئ بينها؟
لا تزال الحرب الأوكرانية الروسية تلقي بظلالها على اليومي في جميع أصقاع العالم، بما تخلفه من عطب في الأسواق، وقد فقدت ما كانت تثيره من شغف في نفوس الكثيرين ممن لم يسبق لهم أن عايشوا حرباً على أرض أوروبية، على الأقل في الفترة الحالية، رغم حالة البؤس التي تدب على كثير من الشعوب، ووطأة نبوءة الركود التي ترددها كبرى المؤسسات الدولية كتعويذة.
قد توازي الأسواق اليوم، جنود الحروب الذين سقطوا في ميادين المعارك عبر التاريخ، وقد يسأل غداً أحفاد من سيموتون جوعاً اليوم عن الذنوب التي أتوها حتى يتحملوا أوزار عالم يدعي الفضيلة ويبشر بالسلام المحكوم بلعبة المال. على الأقل ذلك ما نتوقعه كلما توقفنا أمام عمل فني يحاول استحضار ذكريات الحربين العالميتين. من بين الأفلام الكثيرة التي تحكي قصص الحربين الكبرتين، فيلم صدر مطلع شهر يناير/كانون الثاني في فرنسا عنوانه “رماة”، يعود على تاريخ الجنود السينغاليين الذين حاربوا إلى جانب فرنسا في الحربين العالميتين.
يؤدي الدور الرئيس في هذا الفيلم أحد أشهر الممثلين الفرنسيين ذوي الأصول الإفريقية (السينغالية تحديداً) “عمر سي” وقد اشتهر لسنوات بالأعمال الكوميدية التلفزيونية، إضافة لأدوار سينمائية صغيرة، قبل أن تفتح له أبواب المجد حين أدى دور البطولة في فيلم “intouchables” الذي عرف نجاحاً كبيراً، لينتقل بعدها إلى هوليوود، دون أن يحدث قطيعة مع عالم السينما والدراما الأوروبيتين، ولم يكن الفيلم الذي حصل على اختيار في “نظرة ما”، خلال مهرجان “كان” في دورة 2022، ليثير كل هذا الانتباه حين طرح في صالات السينما الفرنسية مطلع السنة الجديدة لولا ما اعتبر تصريحات مثيرة لبطله، الذي أقام مقارنة بين الحرب في أوكرانيا وما يحدث في إفريقيا مندداً بالعنصرية التي يعامل بها الأفارقة عموماً، والذي بحسبه لا يحظون بالحضور الإعلامي والتعاطف، بل لا تحظر إفريقيا في وسائل الإعلام الكبرى إلا لمرافقة أخبار موت أوروبيين، الأمر الذي تسبب في ردود أفعال شنيعة ضده اتهمته بالتنكر لأفضال فرنسا عليه، الأمر الذي اضطره للرد بأنه “فرنسي وليس مضطراً للبرهنة على ذلك”، بل اتهم الأصوات المستنكرة لتصريحاته برغبتها في التشويش على فيلمه الأخير الذي يحكي فيه قصة من بين قصص كثيرة عن ما عايشه أبناء المستعمرات في أزمنة تبدو بعيدة ولكنها لا تزال حية في قلوب الأحفاد، الذين لم يرثوا غير الحكايا عن ما عايشه أجدادهم الذين سيقوا إلى عنوة إلى حرب لم يختاروها.
يحكي “رماة” قصة “بكاري ديالو” الذي يضطر للتجند إلى جانب فرنسا بعد أن أُخذ ابنه “تييرو” ذو السبعة عشر ربيعاً إلى الحرب العالمية الأولى جبراً، وقد اختطف من قريته بعد أن أخفق والده في إخفائه. هكذا نتابع لمدة قرابة الساعتين سعي “بكاري” لحماية ابنه وبذل كل ما في استطاعته للعودة للديار. يرتقي “تييرو” في سلم المسؤوليات ويصبح مسؤولاً مباشراً لوالده، بعد أن يكشف سر علاقتهما أحد المسؤولين عن فرقتهم، أوروبي بدوره ابن لأحد قادة الحرب. نبصر تطور العلاقة بين الأب والابن في محاولتهما لحماية بعضهما تارة، وفي ثورة الابن الذي سيعجب بلعبة الحرب، قبل أن يتلقى رصاصة، سيفقد بعدها والده وهو يحاول إنقاذه.
تجري حوارات الفيلم في شقها الأكبر بلهجة “البيل” السنغالية، وهي لهجة قبيلة بطل الفيلم الذي سيؤدي دور ابنه أحد أقربائه المباشرين أيضاً. يركز الفيلم على استشراء الفساد في أوساط الجنود، على التعدد اللساني والقبلي السينغالي، لكن دون كبير تنديد بما عاشه أبناء المستعمرات خلال الحربين. ينتهي الفيلم بمشهد مؤثر، تجمع فيه رفاة “بكاري” دون أن يتم تشخيصه، بل سيعرف تقريبياً من خلال سكين يحمله، ثم صورة لقبر الجندي المجهول الذي يقبع تحت قوس النصر، في إشارة إلى إمكانية أن يكون ذلك الجندي أحد الرماة السينغاليين، الأمر الذي سيؤكده بطل الفيلم في المقابلات الكثيرة التي ستجمعه مع وسائل الإعلام، والتي سيؤكد فيها أمله بأن يكون ذلك الجندي المجهول أحد الجنود من ذوي الأصول غير الأوروبية الذين سقطوا في سبيل تحرير فرنسا.
لا يمكن لمن يشاهد فيلم “رماة” ألا يستذكر فيلما مؤثراً آخر عنوانه “أنديجان” (أهالي) صدر سنة 2006، وأثار نقاشاً واسعاً حينها، واحتفي به في مهرجان “كان”، حتى أنه نال جائزة أحسن أداء رجالي لأبطاله الأربعة ذوي الأصول المغاربية. الفيلم أخرجه الفرنسي ذو الأصول الجزائرية “رشيد بوشارب” ولعب أدواره الرئيسة ثلة من الممثلين: سامي بوعجلية تونسي الأصل، رشدي زام مغربي الأصل، جمال دبوز مغربي الأصل، سامي ناصري جزائري الأصل… يحكي الفيلم قصة مغاربة (نسبة للمغرب العربي) يساقون للحرب العالمية الثانية عنوة.
يعيشون إضافة لفظاعات الموت والرصاص والبرد، أهوال العنصرية التي ستجعل من ذوي الأصول الأوروبية في أسبقية دائمة لتحصيل أعلى المراتب بعد المعارك، تمنع عن الجنود الأهالي بعض الأطعمة، والتواصل مع أقربائهم وحبيباتهم، كما أخبارهم.
يركز الفيلم على دور تلك الحرب في تطور الوعي السياسي بأهمية التحرر للأنديجان، وعلاقات الصداقة التي ينتحها الموت والدمار. عكس “رماة” ينتهي “أنديجان” برسالة منددة بظروف الرماة السابقين، الذي يعيش كثير منهم حالة عوز ومرض بعد أن حرموا الكثير من الحقوق.
عموماً لا يحظى الرماة السينغاليون بكثير من الود في ذاكرة المستعمرات الفرنسية السابقة، هم الذين عرفت عليهم شراستهم، وقوة بأسهم، لكن يحظون بالتوقير داخل السينغال حتى أن لديهم يوم وطني خاص، في مفارقة تحكي شدة التعقيد التي تخلفها الحروب، وعبث التاريخ.
عبث يجعل الأجيال الجديدة تتساءل حول ما يجب أن تفعل أمام إرث الأجداد المعقد والثقيل، هي التي لم تطلب أن تولد فوق أرض ولا في حقبة زمنية معينة، ما يضطر “كيليان إمبابي” ذو الأصول الكاميرونية-الجزائرية للدفاع عن “زين الدين زيدان” ذو الأصول الجزائرية، ضد عنجهية “لوغريت” الفرنسي الأصيل، و”ديشامب” الذي منع ذي الأصول الجزائرية “كريم بن زيمة” من التألق في مونديال قطر، وهو يرى نفسه مرشحاً محتملاً لهكذا مواقف كفرنسي من ذوي الأصول غير الأوروبية، حتى وإن صنع مجد أهم نوادي البلاد، وصورة رئيس يسعى لإقناع الفرنسيين بالمساواة كعملة للجمهورية رغم إرث عقود من التفرقة على أساس اللون والأصل في العمل والتعليم.