فراس السواح – الناس نيوز ::
الرمز هو تفكير بدون كلمات ينقل رسالة مباشرة تغني عما لا يحصى من الكلمات، إنه منتج عقلي ونفسي في آن معاً، لا يشير إلى نفسه بل إلى ما سواه، ولهذا فإنه يحتوي على معنى مباشر ظاهري وآخر خفي علينا أن نبحث عنه، وهذا ما سنقوم به في رحلة البحث عن رمزية الحية في سفر التكوين.
تتصدر قصة الخلق والتكوين كتاب التوراة (أو العهد القديم في الكتاب المقدس)، ولكن هذه القصة لم تكن أول ما دوّن من أسفار الكتاب وإنما آخره، ويبدو أنها دوّنت بعد سفر إشعيا الثاني وهو الإصحاحات من 40 إلى 66 في سفر إشعيا والتي تُعزى إلى محرر آخر متأخر عن النبي إشعيا، عاصر فترة السبي البابلي التي شهدت دخول الملك الفارسي قورس إلى العاصمة بابل ووراثته لأملاك الإمبراطورية البابلية البائدة. وقد قدم لنا إشعيا الثاني هذا بتأثير الأفكار الزرادشتية أولى التصورات التوراتية عن وحدانية الإله التوراتي يهوه، الذي كان حتى ذلك الحين الأعظم بين الآلهة على ما يتردد في جنبات الكتاب مثل قول محرر سفر المزامير 50: 1 “إله الآلهة، الرب تكلم ودعا الأرض من مشرق الشمس إلى مغربها”. وسفر يشوع 22: 22 “إله الآلهة الرب إله الآلهة”. وسفر التثنية 10: 17 “لأن الرب إلهكم هو إله الآلهة ورب الأرباب”. ومحرر سفر الخروج 180: 11 “الآن عرفت أن الرب أعظم من جميع الآلهة”.
فإلى جانب تأثر محرر قصة التكوين التوراتية بأسطورة التكوين البابلية، فقد تأثر أيضاً بأسطورة التكوين الزرادشتية حيث يقوم الإله الواحد أهورا مزدا بخلق الكون على ست مراحل، في المرحلة الأولى خلق السماء وفي الثانية الماء وفي الثالثة الأرض وفي الرابعة الحياة النباتية وفي الخامسة الحياة الحيوانية وفي السادسة الإنسان الأول. ومن البحر فجّر نبعين عظيمين شكلا نهرين كبيرين هما دايتا ودانها، وزرع في البحر شجرتين الأولى شجرة كل البذور التي تحتوي على جميع بذور النبات المعروف والثانية شجرة الشفاء والحياة الأبدية. وقد جاء خلق آهورا مزدا كاملاً لانقص فيه، وكل ما فيه حر وأخلاقي لأنه زرع المبدأ الأخلاقي في صميم الوجود.
عناصر هذه القصة تعود للظهور في قصة التكوين التوراتية، فالإله يهوه خلق مظاهر الكون والطبيعة في ستة أيام تعادل مراحل الخلق الستة في القصة الزرادشتية مع بعض الاختلاف في ترتيب الظهور وكان الانسان آخر ما خلق، وبعد أن استراح في اليوم السابع: “رأى الله كل ما عمله فإذا هو حسن جداً” (التكوين: 1).أي أن خلق الله جاء كاملاً لا نقص فيه، ولكن هل كان كذلك؟ الجواب نجده في ثنايا بقية القصة. قبل أن أتابع أودّ التنبيه إلى أن لفظ الجلالة الله يرد في الترجمات العربية للتوراة كمعادل للاسم إيل والاسم الآخر إيلوهم في النص العبري وهي من أسماء يهوه الأخرى، أما الاسم يهوه الذي لايلفظه اليهود تبجيلاً فيرد في النص العبري بصيغة الرب.
بعد ذلك غرس الرب جنة في موقع يحدد النص موقعه في عدن شرقاً، ووضع فيه الإنسان الأول آدم، الذي جبله من تراب الأرض ونفخ في أنفه نسمة حياة فصار آدم نفساً حية. نتابع في سِفر التكوين 1:
“وأنبت الرب الإله من الأرض كل شجرة شهية للنظر وجيدة للأكل وشجرة الحياة في وسط الجنة وشجرة معرفة الخير والشر (قارن مع شجرة كل البذور، وشجرة الشفاء والحياة الأبدية في القصة الزرادشتية). وكان نهر يخرج من عدن ليسقي الجنة ومن هناك ينقسم فيصير أربعة رؤوس اسم الواحد فيشون… واسم الثاني جيحون… واسم الثالث حداقل وهو الجاري شرق آشور (الدجلة) والنهر الرابع الفرات (قارن مع النهرين العظيمين في القصة الزرادشتية).
“وأوصى الرب الإله آدم قائلاً: من جميع شجر الجنة تأكل أكلاً وأما شجرة الخير والشر فلا تأكل منها لأنك يوم تأكل منها موتاً تموت. وقال الرب الإله: ليس جيداً أن يكون آدم وحده فأصنع له معيناً نظيره… فأوقع الرب الإله سباتاً على آدم فنام فأخذ واحدة من أضلاعه وملأ مكانها لحماً. وبنى الرب الضلع التي أخذها من آدم امرأة وأحضرها إلى آدم..
“وكانت الحية أحيل جميع حيوانات البرية التي عملها الرب فقالت للمرأة: أحقاً قال الله لا تأكلا من كل شجر الجنة؟ فقالت المرأة للحية: من ثمر الجنة نأكل وأما من ثمر الشجرة التي في وسط الجنة فقال الله لا تأكلا منه ولا تمساه لئلا تموتا. فقالت الحية للمرأة: لن تموتا بل الله عالم أنه يوم تأكلان منه تنفتح أعينكما وتغدوان كالله عارفين الخير والشر. فرأت المرأة أن الشجرة جيدة للأكل وأنها بهجة للعيون فأخذت من ثمرها وأكلت وأعطت رجلها أيضاً معها فأكل. فانفتحت أعينهما وعلما أنهما عريانين فخاطا أوراق تين وصنعا لأنفسهما مآزر.
“وسمعا صوت الرب الإله ماشياً في الجنة عند هبوب ريح النهار، فاختبأ آدام وامرأته من وجه الرب في وسط شجر الجنة، فنادى الرب الإله آدم وقال له: أين أنت؟ فقال: سمعت صوتك في الجنة فخشيت لأني عريان فاختبأت. فقال: من أعلمك أنك عريان؟ هل أكلت من الشجرة التي أوصيتك أن لا تأكل منها؟ فقال آدم: المرأة التي جعلتها معي أعطتني من الشجرة فأكلت. فقال الرب الإله للمرأة: ما هذا الذي فعلتِ؟ فقالت المرأة: الحية غرتني فأكلت. فقال الرب للحية: لأنك فعلت هذا ملعونة من جميع البهائم على بطنك تسعين وتراباً تأكلين كل أيام حياتك… وقال للمرأة: تكثيراً أكثِّر أتعاب حبلك، بالوجع تلدين أولاداً وإلى رجلك يكون اشتياقك وهو يسود عليك. وقال لآدم: لأنك سمعت لقول امرأتك، ملعونة الأرض بسببك، بالتعب تأكل منها كل أيام حياتك وشوكاً وحسكاً تنبت لك وتأكل عشب الحقل، بعرق وجهك تأكل خبزاً حتى تعود إلى الأرض التي أُخذت منها لأنك تراب وإلى تراب تعود.
“وقال الرب الإله: هُوَذا الإنسان صار كواحد منا يعرف الخير والشر، والآن لعله يمد يده ويأخذ من شجرة الحياة أيضاً ويأكل ويحيا إلى الأبد. فأخرجه الرب الإله من جنة عدن ليعمل الأرض التي أُخذ منها. فطَرَدَ الإنسان ووضَع شرقي جنة عدن (ملائكة) الكروبيم ولهيب سيف متقلب لحراسة طريق شجرة الحياة “.(التكوين 2-3).
فما هو معنى كل ذلك؟ ومن هو المخلوق الذي يدعوه النص بالحية، ثم لا يعطينا من المعلومات عن هذه الحية سوى أنها أحيل جميع حيوانات البرية على الرغم من أنها تشكل بؤرة الحدث؟
هنالك إشارات خفية تركها لنا كاتب النص تعطينا مفاتيح لحل لغز هذه الحية. فهي لم تكن تزحف على الأرض بل تمشي على قدمين لأنها لم تغدُ بين الزواحف إلا بعد أن تلقت لعنة يهوه: “ملعونة أنت من جميع البهائم على بطنك تسعين…. إلخ “. لذلك فإن الرسوم التي تصورها منذ عصر النهضة ملتفة على الشجرة ليست إلا من خيال الرسامين. كما أنها حية حكيمة وعارفة استطاعت النفاذ إلى عقل يهوه وعرفت أنه كان يكذب على آدم عندما قال له: “يوم تأكل من الشجرة موتاً تموت”، وقد كشفت لحواء كذب يهوه عندما قالت لها: “لن تموتا لأن الله عارف أنه يوم تأكلان من ثمر الشجرة تنفتح أعينكما وتغدوان كالله عارفين الخير والشر”. وقد صدق قول الحية عندما أكل الزوجان من الشجرة ولم يموتا وتبين كذب يهوه.
كل هذا يقودنا إلى الاستنتاج بأن الحية لم تكن أحيل حيوانات البرية وإنما كائناً ما ورائياً متفوقاً لم يكن لدى كاتب النص ما يقوله عنه أو ليس راغباً في ذلك. لقد أعطانا شيفرة وترك حلها لأجيال قُراء الكتاب المقدس، وقد كان بين هؤلاء عقول نيرة تطوعت لذلك.
عندما استراح يهوه في اليوم السابع وتطلع إلى ما خلق رآه حسناً وكاملاً لا نقص فيه، ولكنه كان مخطئاً. فلو كان هذا العالم كاملاً لسادت فيه مشيئة واحدة هي مشيئة خالقه، ولكن كاتب النص يكشف لنا عن وجود مشيئة أخرى هي مشيئة الكائن الذي لبس لبوس الحية، وأظهر جهل هذا الإله وطبيعته المخاتلة، وقلة حيلته أمام حيلة المشيئة الأخرى، التي قوضت خطته بخصوص الإنسان، وأظهرت نقصه ونقص العالم الذي صنعه. ونحن هنا أمام أول نقد للإله التوراتي يأتي من داخل الكتاب لا من خارجه. فمحرر سفر التكوين كان من طبقة الكتبة المعروفين بثقافتهم وسعة اطلاعهم، وكان على معرفة تامة بسيرة الإله يهوه كما رسمتها بقية الأسفار، وخرج منها بنتيجة مفادها أن الإله التوراتي الذي كان يكرر في كل مناسبة بأنه إله غيور (راجع على سبيل المثال: الخروج 34: 14، والتثنية 4: 24، و5: 9 و 6: 15، ويشوع 24: 19، وناحوم 1: 2) كان محقاً في غيرته، فلو لم يكن هنالك إله آخر غيره فممن يغار؟
من الصفات التي يتمتع بها الإله الأوحد (أي الله) أربعة، فهو: كلي المعرفة وكلي الحضور، وكلي القدرة، وكلي الخير، والإله التوراتي لا يمتلك أياً من هذه الصفات على ما تبين لنا سيرته. فهو ليس كلي الحضور لأنه لم يكن حاضراً عندما أكل الزوجان من الشجرة، وكان غائباً عندما وقع بنو إسرائيل تحت نير العبودية في مصر 400 سنة وغير عارف بما جرى لهم، بعد أن نسي وعده لإبراهيم بأنه سيعطي نسله ارض كنعان، نقرأ في سفر الخروج 2: 23 – 25 “وتنهد بنو إسرائيل من العبودية، وصرخوا فصعد صراخهم إلى الله من أجل العبودية فسمع الله أنينهم فتذكر الله ميثاقه مع إبراهيم ونظر الله بني إسرائيل وعلم الله”. وهو ليس كلي المعرفة لأنه بحث عن آدم في الجنة ولم يجده فقال: أين أنت؟ وبعد ذلك سأله هل أكلت من الشجرة التي أوصيتك أن لا تأكل منها؟ وعندما انتابه شك في مدى طاعة إبراهيم له أمره أن يذبح ابنه ويقدمه قرباناً له، وعندما مد إبراهيم يده إلى السكين ناداه الرب قائلاً: “الآن عرفت أنك خائف الله فلم تمسك ابنك وحيدك عني” التكوين 22. وقد فعل الشيء نفسه مع العبد الصالح أيوب فأوقع به المصائب والكوارث ليعرف هل يتقيه مجاناً أم لأنه وسع عليه في أهله وماله (سفر أيوب). وهو ليس كلي القدرة لأنه لم يستطع فعل شيء حيال المشيئة الأخرى التي تحدته سوى الكلام الفارغ: ملعونة أنت… إلخ. وهو ليس كلي الخير. وهذا يستحق منا وقفة أطول.
فهو ليس كلي الخير لأن شرور هذا العالم الناقص هي من صنعه على ما يقوله عن نفسه في سفر إشعيا 45: 7 “أنا الرب وليس آخر مصور النور وخالق الظلمة، صانع السلام وخالق الشر”. والصفة التي يتباهى بها هي الانتقام، فهو ينتقم من الذين يخطئون إليه في أبنائهم وأبناء أبنائهم ممن لا جريرة لهم “أنا الرب إلهك إله غيور أفتقد ذنوب الآباء في الأبناء وفي الجيل الثالث والرابع من مبغضي” التثنية 5: 9. وإذا كانت العدالة تتبدى في تناسب العقوبة مع الذنب، فإن عدالة يهوه تقضي برد الشر على البشر مئة ضعف ودون اعتبار لفداحة الذنب.
فعندما رأى أن شر البشر قد كثر قرر إفناء الحياة على الأرض، الإنسان والحيوان والنبات، فأرسل طوفاناً قتل كل من عليها ولم يُبقِ إلا على من حملهم نوح معه في السفينة. فكم من طفل قتيل كان بين هؤلاء المخطئين لم يعرف بعد الخير والشر؟ والشيء نفسه يقال عن مدينتي سدوم وعمورة اللتين أهلكهما بنار وكبريت من السماء، دون تمييز بين شاب وشيخ وطفل ورضيع. وخلال تجوال شعبه المختار في صحراء سيناء كان يقتل الآلاف منهم كلما تذمروا على موسى وهارون (راجع على سبيل المثال حادثة التذمر التي قتل فيها يهوه 14700 من شعبه المختار في سفر العدد 16: 41- 50، والأخرى التي قتل فيها 24000 في سفر العدد 25: 9). أما مجازره التي أحدثها في الشعوب الأخرى على يد موسى ثم يشوع بن نون، فكانت تتم وفق قانون التحريم الذي ينص على إفناء كل نفس حية في المدينة المهزومة بما فيها حيواناتهم ومواشيهم.
أما لماذا اختار محرر سفر التكوين الحية لتكون رمزاً للقوة الغامضة التي وقفت في وجه يهوه، فسؤال ربما وجدنا مداخل للجواب عليه عندما نستعرض بعض دلالات رمز الحية في ثقافات العالم القديم وهو رمز شديد التركيب ومتنوع الدلالات.
فالحية هي رمز للحكمة والمعارف السرانية. وهي مبدأ الحياة وحافظها في الطبيعة والكائنات الحية، ولذلك فإن اسمها في اللغة العربية واللغة الآرامية مستمد من كلمة الحياة. وقد ساد الاعتقاد قديماً بأنها لا تموت أو أنها تعيش دهوراً طويلة لأنها تجدد جلدها كلما بلي وتلبس جلداً جديداً. وفي ملحمة جلجامش عندما عاد جلجامش ملك مدينة أوروك السومرية من رحلته الطويلة التي كان يبحث خلالها عن سر الخلود ومعه نبتة تجديد الشباب، توقف عند بركة ماء للاستراحة وغطس فيها تاركاً النبتة عند الضفة، فتسللت الحية وأكلتها وبينما هي عائدة تجدد جلدها.
هذه الخصيصة المتعلقة بتجديد الحياة جعلت من الحية رمزاً للصحة والشفاء، ولذلك كانت الأفاعي كائنات مقدسة في مشافي العصر الكلاسيكي (اليوناني/الروماني) وكان بعضها يحتفظ بعدد من الأفاعي في بركة خاصة تدعى بركة الشفاء. كما نجد الحية على شارة إله الشفاء اسكليبيوس وهي عبارة عن عصا تلتف حولها حية. كما كان لإله الشفاء الفينيقي إشمون أيضاً عصا تلتف حولها أفعى. وقبل ذلك كان شعار إله الشفاء السومري عصا يلتف حولها أفعوانان متقابلان حملها فيما بعد الإله هرمز/ ميركوري في المثيولوجيا الكلاسيكية. وتقول بعض الأخبار أن أهالي روما عندما تفشى بينهم وباء قاتل، جاؤوا بإله الشفاء اليوناني وهو على هيئة أفعى حجرية ضخمة ونصبوه في وسط المدينة فتراجع الوباء. ولدينا في كتاب التوراة حية مقدسة شافية أيضاً، فعندما أرسل يهوه على بنى إسرائيل في الصحراء أفاع سامة قتلت منهم خلقاً كثيراً، صنع موسى حية من نحاس ورفعها فكان كل من نظر إليه يُشفى من لدغ الحيات (العدد 21: 9). وقد بقيت حية النحاس هذه لدى أهالي يهوذا فيما بعد رمزاً لإله معبود وكانوا يدعونها نحشتان (الملوك الثاني 18: 4).
وفي الزرادشتية خلال المرحلة المجوسية نجد الأفعى كرمز للقدرة الثانية المتحكمة بالكون إلى جانب الإله الأعلى أهورا مزدا. وفي ميثولوجيا الشرق القديم ومنظومات مثيولوجية أخرى، يجري تصوير الألوهة البدئية السابقة على ظهور الكون المنظم على هيئة حية أو تنيّن مثل تعامة في الميثولوجية البابلية، ويم ولوتان في الميثولجية الكنعانية. كما يتصل رمز الأفعى في العديد من الثقافات بالأُمِّ الكبرى سيدة الطبيعة وواهبة الحياة.
إن الغموض الذي يحيط بحية سفر التكوين جعلها موضع تأملات لاهوتية لاحقة، وسوف أركز فيما يلي على تفسيرين، الأول قدمته الأسفار التوراتية غير القانونية، والثاني قدمته الكتابات العرفانية الغنوصية.
الأسفار التوراتية غير القانونية أو المنحولة هي الأسفار التي لم تُقبل في مجمع يمنيا عام 90م. الذي أقرَّ فيه اللاهوتيون اليهود الصيغة النهائية للتوراة العبرانية، ولكنها بقيت متداولة ومارست تأثيراً كبيراً على العقيدة اليهودية. وقد طورت هذه الأسفار فكرة الشيطان الكوني المسؤول عن شرور العالم، عندما أدار رئيس إحدى طبقات الملائكة المعروفين بالساهرين ظهره لمجده الملائكي وهبط إلى الأرض مع عدد كبير من أتباعه وتحولوا إلى شياطين. وهذه أول إشارة في تاريخ الدين إلي فكرة الشيطان باعتباره ملاكاً عاصياً ساقطاً.
ففي سفر أخنوخ الأول وسفر الخمسينيات (Jubilees) عندما تكاثر البشر وولد لهم بنات حسنات وجميلات، رأى فريق من الملائكة الساهرين (المسؤولين عن مراقبة أحوال الأرض) بنات الناس فاشتهوهن، وقال بعضهم لبعض هلم بنا نختار لأنفسنا زوجات من بني الإنسان وننجب منهن نسلاً. ثم هبطوا بزعامة رئيسهم المدعو سيمياز على جبل حرمون في سورية، واتخذوا لأنفسهم زوجات بشريات فولدن لهم عمالقة عاثوا فساداً في الأرض وصعد صراخ البشر إلى السماء بالشكوى. عند ذلك نظر الملائكة ميكائيل وسورافيل وجبرائيل ورأوا ما يجري على الأرض، فمضوا إلى الرب وأطلعوه على الأمر، فأرسل إلى الملائكة الساقطين من نقل إليهم قضاءه بشأنهم، فهم سيشهدون ذبح أولادهم العمالقة ثم يقيدون في باطن الأرض حتى يوم الدينونة. وهنا مضى رئيسهم ومثل في حضرة الرب ورجاه أن لا يهلك الشياطين جميعاً، بل يترك له قسماً منهم لكي يتابع بواسطتهم مهامه الشريرة. فوافق الرب وترك له عُشر الشياطين ثم أمر الملائكة بتعليم البشر طرق الوقاية من شرهم.
بعد ذك تُجري الأسفار القانونية تعديلات على القصة، ويدخل الشيطان مسرح الحدث حيث تتم المطابقة بينه وبين حية الفردوس. ففي سفر أسرار أخنوخ يتصور الملاك الرئيس ساتانا – إيل في قلبه خطة مستحيلة وهي أن يعلو فيصبح نداً للرب وذلك لما رأى من كمال خلقه، وكان أن تمرد على خالقه ثم أغوى من تحته من الملائكة وزين لهم العصيان، ولكن الرب رماه من الأعالي مع ملائكته ففقدوا بريقهم السماوي وصاروا أرواحاً شريرة ترفرف فوق هاوية العدم. وعندما خلق الرب آدم وحواء وأسكنهما في الجنة وأعطاهما الأمر بعدم الأكل من الشجرة، تسلل الشيطان إلى الجنة في هيئة الحية وأغوى حواء.
في سفر كتاب حياة آدم وكتاب الهاجاداة يجري تطوير القصة نحو شكلها الأخير. فبعد أن خلق الرب آدم على صورته أمر الملاك ميكائيل أن يجمع الملائكة ويأمرهم بالسجود لآدم، ففعل ميكائيل وقال لهم: اسجدوا لصورة يهوه. وكان هو أول الساجدين، ولكن الملاك الرئيس ساتان الذي أضمر الحقد والحسد لآدم رفض السجود قائلاً: لن أسجد لمن هو أدنى مني مرتبة. ثم توجه بالقول إلى الرب: لقد خلقتنا من ألقك وبهائك فكيف تأمرنا أن ننطرح أمام من خلقته من تراب الأرض؟ فأجابه الرب: ومع ذلك فإن تراب الأرض هذا أكثر منك حكمة ومعرفة. وهنا تدخل ميكائيل وحث ساتان على الانصياع قائلاً: إذا لم تبجل آدم عليك أن تتحمل عواقب غضب الرب. فأجابه ساتان: إذا صب غضبه عليّ سوف أرفع لي عريشاً فوق النجوم وأغدوا نداً للعلي. فلما سمع منه الرب ذلك رماه خارج دائرة السماء وتبعه حشد من أتباعه الذين شجعهم تمرده على إظهار ما كتموه في أنفسهم من حسد لآدم ورفضٍ لسموه عليهم، ففقدوا طبيعتهم السماوية وتحولوا إلى شياطين. ثم إن ساتان بعد أن رأى آدم ينعم بالبركة والسرور في الجنة دخل إليها في هيئة الحية وأغوى حواء.
هذا عن تفسير الأسفار المنحولة، أما عن التفسير الغنوصي فقد خرجت به عقول مستنيرة يهودية في فلسطين والاسكندرية، ضاقت بالإله التوراتي وشريعته التي تقيد المؤمنين في جميع مناحي حياتهم، وراحت تبحث عن إله آخر. وقد وجد هؤلاء ضالتهم في إله يسوع المسيح بعد أن جردوه من كل روابطه اليهودية، وجعلوا منه ألوهة سامية متعالية لا علاقة لها بمجريات العالم المادي الناقص. وقد رفض هؤلاء أسفار العهد القديم جملة وتفصيلاً، وأنتجت فرقهم المتنوعة أناجيل حلت محل الأناجيل الأربعة القانونية. ونقطة الانطلاق التي جعلتهم مستقلين عن اليهودية وعن المسيحية القويمة (كما تدعو نفسها)، هو إيمانهم بأن الإله السامي المتعالي رب الأنوار، ليس صانع هذا العالم الناقص والمليء بالشر، بل هو الإله التوراتي الناقص والبعيد عن الكمال، والذي صنع الإنسان من مادة الأرض، ولكي يبث فيه الحياة فقد أخذ روحه من نور الأعالي المسروق وحبسها في الجسد الذي صنع، ولكي يبقيه في جهل لأصله السماوي، فرض عليه الشريعة التي تشغله عن معرفة نفسه واكتشاف الجوهر الحقيقي للروح باعتبارها شرارة من نور الله. هذه المعرفة هي التي تعتقه من دورة الميلاد والموت والتناسخ، وتؤهله للخلاص ولعودة الروح إلى بيتها الذي ضاعت عنه. ولقد أشفق الله على الإنسان الأول وأراد له الخلاص فأرسل إليه كائناً نورانياً يمثل مبدأ العرفان الذي ارتدى جسد حية الفردوس، وبواسطتها حصل الزوجان على المعرفة وانفتحت أعنيهما، وعندما انتهت مهمته رجع إلى موطنه. ولكن البشرية عادت لتسقط في غياهب الجهل، فهبط مبدأ العرفان مجدداً في صورة يسوع المسيح لكي يرفع عن كاهل الناس لعنة الشريعة (وفق تعبير بولس الرسول) وينقذهم من صاحب هذه الشريعة.
إن حية الفردوس في التوراة ليست أحيل حيوانات البرية، وإنما قدرة إلهية أخرى كان بمقدورها أن تحبط خطة يهوه، وإله التكوين لم يكن الإله الأوحد عندما خلق العالم.