آرام كرابيت – الناس نيوز :
عندما بكى نيتشه، رواية للكاتب الأمريكي، إرفين د. يالوم، ترجمة خالد الجميلي، صادرة عن دار الجمل. رواية تشبه السباحة في الفكر والعمق الإنساني أو الدخول في الخفاية الصعبة للإنسان، في الأماكن المركونة بعيدًا عن متناول الأيدي البسيطة أو العابثة.
وهذا الروائي، أو العالم النفسي، حوّل عالمه الروائي أو علمه في الطب النفسي إلى أعمال روائية رائعة، لتسهيل نفسه في التغلغل النفسي في النفس الإنسانية العميقة، خاصة المتعلقة بالفلاسفة العظماء كرواية” مشكلة سبينوزا” ورواية” علاج شوبنهاور” و” مستلقيًا على الكنبة”، والرواية التي بين أيدينا
في هذه الرواية الرائعة، لدينا ثلاثة عباقرة يتواجدون في متن الرواية، ثلاثة من عظماء التاريخ، الفيلسوف فريديريك نيتشه، وعالما النفس جوزيف بريوير، وسيجموند فرويد يتحاورون، يتبادلون المعرفة ويعملون تحت مجهر البحث عن أفضل السبل لتطوير الفلسفة وعلم النفس من خلال العمل معًا لاكتشاف أفضل السبل وعلاج الأمراض الجسدية والنفسية وإدخال البعد الفلسفي فيهما.
الثلاثة لديهم ذائقة جمالية وأخلاقية عالية، وعقل مجتهد راغب في التوصل إلى أفضل السبل لمعالجة معاناة الإنسان على هذه الأرض.
تبدأ الرواية برسالة: ” دكتور بريوير، يجب أن أراك لمناقشة مسألة بالغة الأهمية وعاجلة. إن مستقبل الفلسفة الألمانية على المحك”.
لم يكن نيتشه معروفًا أو مشهورًا في الوسط الثقافي والفكري أثناء تلقي بريوير هذه الرسالة من شابة صغيرة في العمر تدعى لو سالوي، لا تتجاوز الحادية والعشرين، كانت محبوبة نيتشه من طرف واحد، بل كان متيمًا بها إلى حد الجنون.
تمضي الرواية في بحر الروي العميق، مخترقة المجهول، تلتقي لو سالومي ببريوير، سلطة الجمال تفرض نفسها عليه: صورتها تتدفق بقوة إلى عقلي، يا لها من امرأة فائقة الجمال؟ لدي صديق ينتابه شعور باليأس، وأخشى أن ينتحر. وإذا انتحر فإن ذلك سيكون خسارة كبيرة. فقد ينطوي موت هذا الرجل على نتائج بالغة الأهمية ـ لك وللثقافة الأوروبية ولنا جميعًا. صدقني.
ـ ومن هو هذا الرجل، صديقك؟ هل أعرف عنه شيئًا؟ .
كانت سالومي مضطرة أن تعرف الدكتور بريوير عن نيتشه عبر رسالة من ريتشارد فاغنر، المؤلف الموسيقي والكاتب المسرحي:
ـ إن كتابك يتسم بأصالة عميقة. لكنك مريض! هل عزيمتك مثبطة أيضًا؟
عمليًا، إن نيتشه مريض جدًا وبأمس الحاجة للمساعدة، لديه صداع شديد ونوبات شديدة من الغثيان، وعمى وشيك، وتلبك في المعدة لايستطيع تناول الطعام، وأرق وشعور بالدوار. وإن شعوره بالاكتئاب شديدًا، بيد أنه مفكر من طراز رفيع:
ولد في جيل قبل جيله، وفيلسوف سبق عصره، لم يفهمه العالم في وقته. والكتاب الجديد الذي ينوي كتابته هو النبي، زردشت الممتلئ حكمة، ويقرر تنوير العالم.
لكن لا أحد يفهم ماذا يقول. فلم يتهيأ الناس بعد لاستقباله، ويدرك أنه أتى في زمن غير زمانه، لذلك ينكفئ إلى عزلته. وإنه يتحدث عن الانتحار علنًا في جميع أحاديثه ورسائله، ولديه شعور باليأس، وأنه غير متعاون مع أطبائه ولا يحب أن يتعالج من حدة شعوره باليأس، ولديه آراء قوية عن الضعف والقوة:
إن نيتشه حساس للغاية إزاء المسائل المتعلقة بالقوة. إن كبرياءه ووجوده كله متعلق بتمحوره حول القوة التي لا يمكن أن يسلم فيها إلى شخص أخر، لهذا فإنه منجذب إلى الفلسفة اليونانية قبل سقراط خاصة أن المرء يستطيع ان يطور قدراته من خلال التنافس.
استطاع الروائي إرفين أن يدخلنا في أعماق شخصيات مثيرة للدهشة والاهتمام، لما قدموه من أعمال فكرية ونفسية وفلسفية امتدت إلى مرحلة القرن العشرين كله، وما زالوا موضع دراسة وبحث، بلغة أدبية جميلة هادئة، وكأن إرفين ينحت بالإزميل على الرخام، وعبر ترجمة عربية رفيعة المستوى، أدخلنا في مجريات الأحداث الكبيرة وعوالم القرن التاسع عشر، وعرفنا على هذه الشخصيات الفريدة من نوعها، عوالم بريوير وفرويد ونيشه، حوارهم المستقل عن الغايات الدنيوية، دوافعهم حول الآلية الأفضل.
هناك إشارات واضحة حول معاناة اليهود في أوروبا القرن التاسع عشر، معاداة الكثير لهم ومحاصرتهم من قبل الدول. يسأل بريوير سالومي:
هل يشارك نيتشه آراء أخته في معاداة اليهود؟ .
ـ من المهم أن تعرف أن نيتشه لا يهتم إلا بالحقيقة، يكره كذبة التعصب، كل أنواع التعصب والتحيز. لكن نيتشه كان فقيرًا، ولكن النفس الساكنة في داخله كانت كريمة للغاية: الأمور المالية لا تهمني، ما دمت أمتلك ما يكفي لأواصل عملي. فأنا أعيش حياة بسيطة، وما عدا الإنفاق على الكتب، فإني لا أنفق شيئًا إلا ما أحتاجه إليه من الأشياء الأساسية في الحياة.
منذ استقالته من جامعة بازل قبل ثلاث سنوات، فإن الجامعة تمنحه راتبًا تقاعديًا صغيرًا. هذا هو كل ما يملكه. وكتاباته لا تدرّ عليه قرشًا واحدًا.
ارتأت جامعة بازل أن تمنحه زيادة صغيرة على راتبه التقاعدي. أظن أن الجائزة الأولى هي لكي يذهب والثانية لكي يبقى بعيدًا. ولايوجد له أصدقاء كثيرون بسبب حياته البدوية. الرواية كبيرة الحجم، ولا يمكن إعطاؤها حقها في مقال صغير كهذا.
الترجمة فخمة، اللغة جميلة، النص فخم وهائل في عطائه. أحيانًا أتساءل لماذا لا يوجد في عالمنا العربي روايات بهذه المهابة، بهذه القدرة الرفيعة في إيصال النص الفلسفي السهل إلى عقل القارئ؟ .