ميشيل سيروب – الناس نيوز
فردقان …اعتقال الشيخ الرئيس* ليوسف زيدان**
عندما بلغ ابن سينا سن الشباب، صارت دولة الإسلام شذرات ممزقة. فالخلافة في بغداد أمستْ منذ فترة طويلة اسماً بلا رسم، وشكلاً لا دلالة له. الخلفاء يتنعمون باللذات في قصورهم، وينتظرون الفيء والهدايا من أمراء استقلوا بالبلاد شرقاً وغرباً. في هذه الظروف السياسية يقدم لنا الأديب يوسف زيدان مأساة عن مصير عالِم كان في زمانه أحكم أهل الأرض. تُصور الرواية مسار حياة ابن سينا والشخصيات المُحيطة به في زمن الصراعات السياسية والتوترات الداخلية في فارس، التي آلت إلى تعقيدات في الحياة الاجتماعية. بلغة سردية يمتاز بها الروائي والمفكر يوسف زيدان نتعرف على تفاصيل حياة ابن سينا وعائلته وسجانيه.
اقتيد الشيخ الرئيس إلى سجن فردقان دون ذنب، فقط إرضاءً للجند. ما هي جريرته؟ ورد في الرواية عن حالة ابن سينا بعد مشاق سفرٍ طويلٍ ” جاء كَسير النفس، كَسيف النظرات خجِلاً من هيئته ومن السلسلة الصدئة المقيدة لقدميه وكفيه”ص7 . لم يعرفْ ابن سينا، أو سيد الحكماء، الوجه القبيح لهذا العالم كانت قيم الجمال وجهَتُه، لذا عندما أنجز كتابه” تنظيم أمور الجند والعسكر” لم يُقدّر العواقب الوخيمة والخطر الداهم على حياته. كان ميالاً إلى المنطق والعقل، كتب عن عنف مهمات العسكر والجند بتحصيل المال والمنافع بالقوة في المدن، أكان يُدرك أنهم من أرذال وشرار الخلق، غايتهم سفك الدماء والمؤامرات؟ لهذا السبب ولغيره أصبح مُستهدفاً من الجند والعسكر. بعد أن نصح ابن سينا “سماء الدولة” أمير همذان وقائد جيشه تاج المُلك” بكف يد الجند عن شؤون الدولة وإخراجهم من المُدن، تآمر سماء الدولة وتاج الملك على إبعاد الشيخ الرئيس وسجنهِ ( بالحقيقة كانت إقامة جبرية) في فردقان الفارسية بالقرب من همدان إرضاءً للجند. تلك النصيحة ورفضه للوزارة الثانية، كانتا السبب المُعلن لإبعاد الشيخ الرئيس و”سجنه” في القلعة. بعد حين سيتم تحرير ابن سينا من قبل العلاء بن كاكويه ليستقرَ مُكرماً في أصفهان.
في الرواية تتكشف لنا خصال ابن سينا الإنسانية العابرة لكل الخلافات والنزاعات والطوائف، كان طبيب اليهود والمسيحيين والمُسلمين والمجوس، ولم يُميز بين غني وفقير، بين الأحرار والعبيد،أو بين الفاطميين وأهل السنة. وفي مُساجلة مع أحد مُحاوريه يرى ابن سينا” إن الله لم يأمر بنهب معابد غير المُسلمين وتدنيسها، وإحراق كتب الأولين” كما كان سائداً في تلك الأثناء ص30. كما أنه عارض أرسطو بأن بعض البشر خُلقوا عبيداً، وكتب ابن سينا بأن الرق والعبودية نقيضان للطبيعة البشرية. رواية أدبية-تاريخية فيها عناصر التشويق والصراع وحوار مُميز بين الشخصيات.
بسرد شاعري مؤثر نقف مذهولين أمام معاناة ابن سينا مُلتاعاً (كان ابن سينا إنساناً قبل كل صفة أخرى) من قصة حبه لسندس والتي انتهت بفاجعة، وعشقه لماهتاب وهو في سن الخمسين،وبمرارة الولهان نتتبع قصة حبه لروان ونهايتها التراجيدية المؤلمة، وبألم فاجع نتشارك إهانته واعتقاله غير المُبرر فهو بالنسبة للبشرية جمعاء أيقونة للعقل والحكمة. نتلمس عمق شخصية ابن سينا كمُنقذ للبشرية من الآلام والمرض وكرمز للحب لمن أصابت قلبه سهام العشق وليس عن عبث قيل عنه طبيب الأبدان والأنفس. الرواية إيجاز لفكر ابن سينا في المنطق والفلسفة والإلهيات، فهو صاحب نظرية العقل مُقدم بالضرورة على النقل، وفي دراسته ما بعد الموت والقيامة: نفى الحكيم الفيلسوف البعث الجسماني وساجل في بطلان التناسخ، كما أكد بأن النفس الإنسانية هي الأهم والأدوم. هذه الأفكار الجريئة، كانت سبباً لإلصاق تهمة الكفر به واتهامه من العامة والجُّهال بالخروج عن ملة الإسلام.
وفي علم الفيزياء، يُسجَلُ لابن سينا فتحٌ علمي، وهو ما تم إثباته بعد قرون، عندما عارض “أبو الريحان البيروني” بأن شعاعَ الضوء جسمٌ. ص89
كم نحن بحاجة لمنطق وحكمة وعمق تفكير ابن سينا اليوم: المنطق المقاوم للتعصب، والجهالة، والعنف، وللمبدأ الذي يتلخص بكلمات بسيطة واضحة: “كلما ازداد التعصب تراجع العقل”. ص101 وفي أحد حواراته مع أبيه قال بمرارة ويأس: “يا أبي المذاهب صارت باباً للتفرقة والعلم هو الذي يُقرب بين الناس وينجو بهم من التعصب” ص112 يُعتبر ابن سينا في نظر المؤرخين الغربيين آخر الفلاسفة المتنورين.
————————————————————-
*رواية عن أبي علي الحسين المُكنى بابن سينا، ولد في أفشنة بالقرب من بخارى عام980م وتوفي عام 1037م في مدينة همدان. أشهر أعماله ” القانون في الطب” اختلف المؤرخون على مذهبه، كان إيمانُ ابنِ سينا عقلانياً، مُتسامياً، لم ينشغل بالتفاصيل التي كانت تُشغل أهل الساسة والمذاهب والعامة من الناس.
**يوسف زيدان: أستاذ جامعي، كاتب وروائي ومفكر مصري مُتخصص في التراث العربي، له مقالات دورية في عدد من الصجف العربية. من مواليد 1958م . نال الجائزة العالمية للرواية العربية( البوكر). له رواية ظل الأفعى، عزازيل ورواية النبطي. وكتبٌ عديدة عن الصوفية ومذاهبها. كاتب جريء وله آراء صادمة بشخصيات تاريخية لها مكانة مرموقة في التراث والثقافة العربية.