د . سالم الترابين – الناس نيوز ::
لا يمكن أنْ تكون الحرب حدث الذاكرة الأوّل عند من يعشق الحبّ والسلام، فالحرب لا تعترف بالذاكرة لأنّها لا تستنطق الزمن، بل أوجاعها مستمرة تستنطق الجسد الموجوع، والأرواح المفقودة. وهكذا كانت الحرب في سوريا صنعت لنفسها ماكينة خياطة لحياكة قماش الألم الذي إن ارتداه لابسه كان خلعه حرام عليه، هذا اللباس الذي لا يخفي عورات الجسد، بل يخفي جماليّة الجسد المعذّب.
جاءت رواية قماش أسود للكاتب السوري المغيرة الهويدي ماكينة حكاية، تحكي معالم الوجع، وتحيك فرشاً لذاكرة استنطقت الأوجاع، واستبسلت على الحرمان. جعل الكاتب نصّه صوت المرأة في حدث السرد الأوحد تخرِج ما في جسدها من ندوب لتري العالم ويلات سوءاتهم المقيتة. استطاع المغيرة عبر اختياره شخوص الرواية أن يدخلنا في معالم المرأة النفسية، تلك المرأة التي عاشت ويلات ألاف السنين في بضع سنين أو أقلّ.
تنساق الرواية نحو معالم الزمن المحاصر، والمكان الضيق، ما جعل شخوص الرواية تتشابه في حقيقة الحدث وتختلف في الإسقاط النفسي لحدث كل شخصية، حيث إنّ الرواية تضيق في حدود شخصيّة نسرين ليجد القارئ نفسه يعبر إلى ويلات شخصيات عانت من ظلام الحرب الموحش. لكن تبقى شخصيّة نسرين الراوي العليم في الرواية، والتي تبحث عن سبب الضياع في طوق نجاة يضيق على موطن الخناق كلما اقتربت من الحقيقة.
تخلق نسرين لنفسها حوّاء أخرى وهي آسيا ظانّة بأنّ التشابه في الأوجاع سيقودها لأن تكون آسيا حاضنة لرحلة البحث عن سبب الضياع، ليجد القارئ بأن شخصية آسيا لا تبحث عن سبب الضياع، بل تبحث عن النجاة من ويلات الضياع الذي تعيشه.
نحن أمام معالم من شخوص أنثويّة، نسرين الفتاة الحالمة بعاشق لا يغيب تتمرد على موروث زائف فتبحث عن حريتين: حريّة فردية في اختيار الجسد بعاشق اختاره قلب متمرد، وحرية جمعية تبحث عن التغيير لوطن اختاره القدر ليحكي التغيير مأساته. وآسيا التي يبحث عنها رجال لا يجدون في جسدها إلا شهوة يقضون وطرهم ويتركونها للقدر.
تتزوج نسرين من عاشقها، لتجد نفسها في مدينة طروادية وهي مدينة الرقة السورية، وهنا توقن نسرين بأنّ حبها ليوسف هو نتاج لسحر فينوس الذي لا يزول، وأنها ليست هيلين في طروادة هوميروس. وفي تلك المدينة تعيش نسرين حصار الموت بعد أن سيطر تنظيم الدولة على المدينة، لتعمل في حياكة القماش الأسود.
ولأنّ الحرب لا تعرف مكاناً ولا زماناً، لا تعرف منتصراً أو مهزوماً، نجد السرد في الرواية يبتعد عن حبكة الحدث، وينقاد نحو حبكة الميلودراما والتي فرضتها شخصيات الرواية ليجد القارئ نفسه في نهاية الرواية يتفاعل مع حبكة النكْس، التي فرضتها الحرب على الشخوص.
ويبدو أن حبكة الميلودراما جعلت الكاتب يقع في فخّ الحوار المسرحيّ، لعلّ محدوديّة الشخوص، وألم الحدث، وحصر المكان الروائي في تكوين ضيّق ساهمت في تكثيف الحوار المسرحيّ، وتقليص الحوار الروائي، لكن هذا التكوين البنائي في الحوار أعطى السرد في الرواية مرونة خصوصاً في لحظات المدى الروائي، حيث يلاحظ القارئ قدرة الكاتب في الاستبطاء بين السرد المتدرج إلى الماضي(استرجاع)، والسرد المتدرج إلى المستقبل(استباق)، وذلك لأنّ لحظات الاسترجاع تشكل الماضي الجميل الذي تهوى بعض شخصيات الرواية استرجاعه، لكنّه المستقبل المرجوّ أنّــا يكون موجوداً والحرب تتبادل أدوارها على مسرح الموت المستمر!
الرواية لا تقدّم أيدولوجيا سياسيّة بقدر ما تقدّم ألم الأيدولوجيا، لذلك يتسامح القارئ مع شخوص الرواية. هذا لا يعني بأنّ الكاتب لا يقدم وجهة نظره نهائياً، لقد اختبأ الكاتب وراء بعض الرموز والإشارات ليظهر وجهة نظر، دون أن يحمّل المسؤولية وفق وجهة نظره لشخوصه المختارة، وهذا ما فعله الكاتب حتى في عنوان الرواية.
وليس انتهاء، تبقى رواية قماش أسود سرداً لأوجاعٍ ثقيلة تقاسم مأساتَها شعبٌ يعيش في جغرافيا الموت، وكأنّ المكان فرَض على الزمن أن يسقط على أرض تعيش فيها الورود، لكن لا تعرف كيف ومتى تقصف هذه الورود، وإن لم تقصف تغطّى بأقمشة لا يهم لونها فلون الوردة الأصلي مختبئ فيها ينتظر موته الرحيم.