[jnews_post_author ]
معظم الذين أرّخوا لنشأة القصة السورية اعتبروا أن عقد الخمسينيات من القرن العشرين، هو العقد الذهبي لنهوضها. شاكر مصطفى وعادل أبو شنب و حسام الخطيب اتفقوا تقريبا على منح تلك السنوات شرف الحضور القصصي الكثيف في التاريخ السوري الحديث.
لماذا الخمسينيات؟
يغلب على الآراء التي تتحدث عن تلك المرحلة الحماسة لذلك العقد، باعتباره العقد الذهبي في تاريخ سورية من الناحية السياسية حيث شهد انفتاحا وليدا على الديمقراطية، ومن الناحية الاجتماعية حيث لوحظ سيادة روح ليبرالية تسعى إلى التسامح ومن الناحية الاقتصادية حيث بدأ بناء الركائز الضرورية لقيام صناعة سورية في أكثر من مجال . الطريف أن الليبرالية السياسية لم تدم أكثر من ثلاثة أعوام، إذا سقط حكم الشيشكلي في عام 1954 واتحدت سورية مع مصر في عام 1958 ، بينما كان ضابط مخابرات عنيف هو عبد الحميد السراج يحكم البلاد من الظل في السنوات الفاصلة بين هذين العهدين بحسب ما يذكر غسان زكريا في كتابه “السلطان الأحمر”. ومع ذلك فقد كان بوسع السنوات الأربع من الانفتاح على الحرية أن تمنح السوريين أملا لا يزال مستمرا حتى اليوم، بإمكانية النهوض فيما لو توفرت الإرادة الحقيقية.
المتابع للعلاقة بين الأدب والواقع الاجتماعي يمكنه أن يجعل من القصة السورية مثالا ساطعا على الاستجابة التي يبديها الأدب أو النوع الأدبي لمتطلبات الواقع الاجتماعي. وأبرز الملاحظات هي اقتحام الأدب للواقع، وهو ما يشير إلى أصالة القصة والكاتب معا، فحضور أي كاتب لا يقبل نسخ الواقع، أو تجميله.
على أن السؤال المهم هو التالي: لماذا كانت القصة الواقعية هي الأكثر شهرة وحضورا في الواقع الثقافي؟ ولماذا استطاع الكتاب الذين انضووا تحت علم الواقعية أن يرسخوا أسماءهم في الواقع وفي التاريخ الأدبي؟. هل لأنها استجابت عبر أصوات كتابها المميزين، لمتطلبات الواقع الاجتماعي ؟ أم هل لأنها استطاعت في فترة وجيزة أن تتخطى عثرات البدايات وتعثر على تقنياتها المناسبة التي تؤهلها للتميز والحضور في الواقع الثقافي؟ . إذ يشهد تاريخ تلك الحقبة ظهور أول تجمع أدبي من أنصار الواقعية، يضم كتاب القصة القصيرة في سورية، هو رابطة الكتاب السوريين، حيث أصدروا مجموعتهم القصصية الأولى ، والأخيرة مع الأسف، التي ضمت قصصا للمشاركين في الرابطة هي ” درب إلى القمة “.
لكن تلك النهضة سرعان ما خمدت بعد فترة قصيرة. هل يتعلق الأمر بطبيعة الحرية الممنوحة للتعبير عن الرأي؟ أم بالعلاقة الخاصة بين الكاتب والواقع.
لكن إذا كان نهوض القصة القصيرة في سورية في الخمسينيات يرتبط فعلا بحركة المجتمع الذي يتردد أنه كان في سبيل التحرر، فهل يعكس تراجع المد القصصي، ونكوص معظم كتابه، تقهقر المجتمع السوري تحت وطأة الحكومات العسكرية التي راحت تحطم الإرادة الجديدة التي امتلكها السوريون بعد الاستقلال؟. ولكن السؤال الآخر الذي يحتاج إلى جواب هو : هل تنجز العلاقة بين الأدب والمجتمع بمثل هذه الآلية شبه الميكانيكية؟ لا شك أننا بحاجة إلى المزيد من الدراسة والتأمل كي نصل إلى أجوبة عن أسئلتنا المعنية بحقبة مهمة من تاريخنا الحديث، وبمصير حركة أدب تلاشت واختفت : مرة في وضع الكتاب السوريين الذين أرادوا هم أنفسهم أن يقدموا صورة جماعية اعتقدوا أنها تحمل كثيرا من السمات الأدبية والفكرية المشتركة. ومرة في وضع كل كاتب من بينهم على حدة. ذلك أنه مهما كانت الدوافع الفكرية والسياسية أو الحزبية متوفرة بين مجموعة من الكتاب، فإن الأصالة الفردية، والسمات الشخصية، والموهبة، واختلاف الظروف الحياتية بين كاتب وكاتب تضع مصير كل واحد من بينهم في مسار مختلف عن الآخر، كما أن الموقف الشخصي لكل واحد من بينهم يقرر في نهاية الأمر قدرته على المتابعة والاستمرار، أم النكوص والتوقف.
ومن بين أولئك الذين بدؤوا الكتابة القصصية في تلك المرحلة لم يبق أحد تقريبا، كان للشعر أولوية لدى شوقي بغدادي، ولم ينشر غير مجموعتين قصصيتين في فترات متباعدة، ورحل مواهب كيالي عن البلاد ، ومات في روسيا، دون أن نعرف إن كانت لديه قصص مكتوبة لم تنشر، بينما لم يتابع الآخرون الكتابة القصصية أيضا، لا صلاح دهني ولا مراد السباعي ولا ليان ديراني،كما اتجه حنا مينه إلى الرواية، و صمت مصطفى الحلاج طويلا قبل أن يعود إلى الكتابة المسرحية.وواصل سعيد حورانية الدرب بضع سنوات أصدر خلالها ثلاث مجموعات قصصية، ثم صمت حتى رحيله عن دنيانا. الوحيد الذي ظل مواظبا على الكتابة القصصية هو حسيب كيالي ، الذي يمكن اعتباره مؤسسا لاتجاه لافت في القصة ، من بين الفنون الإبداعية الأخرى، ليس في سورية وحدها، بل في العالم العربي كله، وهو القصة الساخرة. ويمكن للباحث أن يجد لدى حسيب كيالي، ولدى سعيد حورانية امتدادات في الأجيال اللاحقة من كتاب القصة، وإن كان أثر حسيب أكثر وضوحا في جيل من كتاب القصة السورية الساخرة الذين ظهروا في السنوات اللاحقة.