عندما سيطر الدواعش على الموصل عام 2014 كتبوا على أحد جدرانها “سنفتح روما بالسيف…”؛ لكن بعد 7 أعوام قام البابا فرانسيس – أسقف روما وزعيم الكنيسة الكاثوليكية – بفتح الموصل سلمياً!
لم تكن زيارة البابا للعراق، في الفترة بين 5 – 8 مارس آذار، اعتباطية أو محض صدفة، بل كانت مدروسة بشكل جيد، وتم التحضير لها منذ فترة طويلة. فقد اعتزم غبطته زيارة هذا البلد المنكوب في وقت مبكر من عام 2014، لكن الزيارة لم تتم لأسباب أمنية، مثلما حدث مع يوحنا بولس الثاني عندما أراد القيام برحلة مماثلة عام 2000. بهذه المناسبة قال في مقابلة له: “شعب العراق ينتظرنا. كانوا ينتظرون قبل 20 عاماً وصول البابا يوحنا بولس الثاني، لكن لم يُسمح له بالمجيء إلى هنا. لا يمكن أن أخذل الناس مرة أخرى”.
في نهاية عام 2019، قام فرانسيس بآخر رحلة خارجية له قبل جائحة كوفيد 19 إلى تايلاند واليابان، ثم أمضى ما يقرب من 17 شهراً في عزلة.. صرح أحد الكرادلة المقربين منه: “إنه حريص على العودة إلى الطريق مرة أخرى بعد فترة طويلة من الوحدة”. لذلك، قبل وقت قصير من زيارته للعراق، في ١٤ يناير كانون الثاني من هذا العام، أخذ الأب فرانسيس البالغ من العمر 84 عاماً، لقاح فايزر/بيونتك ضد فيروس كورونا؛ حيث دعا حينها جميع المؤمنين في العالم إلى التطعيم، واصفاً إياه بـ “العمل الأخلاقي”.
على الرغم من كل المخاطر المرتبطة بهذه الرحلة، حيث أطلق مسلحون موالون لإيران 10 صواريخ على قاعدة عين الأسد الجوية في العراق التي يستخدمها الجيش الأمريكي، قبل يومين من بدء رحلة فرانسيس، فإنه أصر على زيارة العراق لأول مرة في التاريخ؛ لتدل على شجاعة نادرة وعدم خوف من التهديدات الإرهابية أو فيروس كوفيد 19.
لقد أراد دعم المسيحيين العراقيين الذين تعرضوا للاضطهاد من قبل الجهاديين والميليشيات الشيعية لسنوات. تم التمييز ضدهم في البداية من قبل نظام صدام حسين لعقود، وبعد ذلك، أصبحوا ضحايا الإبادة الجماعية المباشرة التي خطط لها قادة الجماعات الإرهابية التي استولت على معظم البلاد. لذلك زار في يومه الأول الكنيسة السريانية الكاثوليكية المعروفة بـ “سيدة النجاة” في بغداد.. هنا أخذ الإرهابيون حوالي 100 من أبناء الرعية المحليين الذين حضروا قداس مساء 31 أكتوبر تشرين الأول 2010، كرهائن؛ ثم حدثت المذبحة لاحقاً، حيث أسفرت عن مقتل 58 شخصاً.
حسب المصادر المطلعة، تضاءل عدد الطائفة المسيحية في العراق، وهي واحدة من أقدم الطوائف في العالم، من 1.5 مليون في عام 2003 إلى 200 ألف فقط اليوم، بسبب الحرب والإبادة الجماعية والتهجير. يوجد اليوم 14 كنيسة مسيحية معترف بها رسمياً في العراق. يعيش معظم المسيحيين في بغداد وسهول محافظة نينوى الشمالية وفي كردستان العراق المتمتعة بالحكم الذاتي. ينتمون بشكل أساسي إلى الكنائس الشرقية الكاثوليكية والشرقية القديمة (الأقرب إلى الأرثوذكسية)، ولكن ليس فقط. يعتبر حوالي 80 % من المسيحيين هناك أنفسهم من الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية، التي لها علاقات وثيقة بالفاتيكان، لكنها تحتفظ بشرائعها وتقاليدها وطقوسها. والبعض الآخر مسيحيون ينتمون إلى طقوس السريان الملبار، والسريان الشرقيين، والآشوريين، وأبناء الكنيسة الأرمينية الكاثوليكية، وما إلى ذلك…
في اليوم الأخير من الرحلة، 8 مارس آذار، زار البابا مدينة الموصل، وكركوش أكبر حاضنة مسيحية في البلاد، الواقعة بالقرب من نينوى القديمة (عاصمة الدولة الآشورية سابقاً). من هنا فر الآلاف من الناجين المسيحيين العراقيين بعد بدء هجوم “الدولة الإسلامية” عام 2014. وفقاً لممثلي الفاتيكان، كانت كركوش رمزاً لمحنة المسيحيين في جميع أنحاء الشرق الأوسط لعدة سنوات.
لم يتحسن وضع المسيحيين حتى الآن، وهناك مضايقات وملاحقات من قبل الميليشيات الشيعية.. لا تزال العديد من العائلات المسيحية نازحين لا حول ولا قوة ولا مأوى في كردستان العراق، على الرغم من هزيمة داعش في عام 2017، ولا تزال منازلهم في الموصل وحولها مدمرة وغير صالحة للسكن. لا يزال الكثيرون يخشون وجود مجموعة واسعة من المتشددين الإسلاميين المتطرفين في المنطقة.
حذّر بطريرك الكلدان في العراق والعالم، الكاردينال لويس روفائيل ساكو، من تحركات الميليشيات لتغيير ديموغرافية مناطق مسيحية في محافظة نينوى، حينما قال في مقابلة خاصة مع “شبكة رووداو” الإعلامية، إن “المسيحيين الذين عادوا الى مناطق سهل نينوى غير مستقرين ومُطمئنين للمستقبل، فهم فقدوا الثقة بجيرانهم الذين جاؤوا وسرقوا أموالهم وبيوتهم، فليس داعش هو من أحرق كل البيوت، هناك أيادٍ أخرى هي من أحرقتها. توجد ميليشيات، تحت مسميات مختلفة، تفرض إتاوات وتهدد وتستحوذ على أملاك الناس، بشكل أو بآخر”.
هناك 5 نواب مسيحيين في البرلمان الحالي من أصل 329 نائباً، حيث تم تعيين بعضهم من قبل المجاميع المسلحة، ليكون تمثيلهم صوريا فقط. وفي حكومة الكاظمي تم اختيار سهى النجار، التي تنتمي لعائلة مسيحية كلدانية، كمستشارة للشؤون الاقتصادية. كذلك عينت الكلدانية إيفان فائق يعقوب جابرو على رأس وزارة الطوارئ المتعلقة بالهجرة وإعادة توطين المشردين داخلياً.
عقد البابا كذلك لقاء بين الأديان وصلاة مشتركة في مدينة أور، الموجودة منذ الألفية السادسة قبل الميلاد. هنا، وفقاً لرواية “العهد القديم” وُلِد النبي إبراهيم الذي يحظى بنفس القدر من الاحترام من قبل المسلمين والمسيحيين واليهود. بعد عودة البابا إلى الفاتيكان غرد على التويتر في 10 مارس آذار 2021: “إذ أفكر بالعديد من العراقيين المهاجرين أود أن أقول لهم: لقد تركتم كل شيء، مثل إبراهيم، حافظوا مثله على الإيمان والرجاء، وكونوا ناسجين للصداقة والأخوة أينما حللتم، وعودوا إذا أمكنكم”.
قضى البابا فرانسيس سنوات عديدة في محاولة لتحسين العلاقات بين العالم الكاثوليكي والمسلمين، فقد أقام البابا الحالي بالفعل علاقات وثيقة مع الشيخ أحمد الطيب إمام الجامع الأزهر في القاهرة، ووقع وثيقة أخوة معه. كتب الطيب لاحقاً على تويتر: “أخي فرانسيس يُعيد الضمير للبشرية”.
قام الحبر الأعظم بأول زيارة لممثل الكنيسة الكاثوليكية على الإطلاق إلى شبه الجزيرة العربية – الإمارات العربية المتحدة – في فبراير شباط 2019، حيث أقام أول قداس بابوي هناك – في مجمع مدينة زايد الرياضية في أبو ظبي – وحضره 180 ألف مؤمن من 100 دولة، بينهم 4 آلاف مسلم.
لم يصل البابا فرانسيس في الأماكن العراقية المقدسة فقط، ولم يزر مجتمعات المسيحيين العراقيين من مختلف الطوائف الذين بقوا هناك فقط، ولم يلتق برئيس البلاد ورئيس الوزراء ومسعود البرزاني فحسب، لكنه التقى أيضاً بالزعيم الشيعي علي السيستاني القائد الروحي الأكثر نفوذاً في العراق.
حسب البروتوكول: جرى اللقاء في منزل الزعيم الديني العراقي، واستغرقت المحادثة نحو 45 دقيقة. شدد الحبر الأعظم على أهمية الصداقة والاحترام المتبادل والحوار بين الجماعات الدينية. وقال وهو يودع آية الله السيستاني، إنه سيصلي من أجل السلام والأخوة للعراق والشرق الأوسط والعالم بأسره. غردت “وكالة أنباء المجلس البابوي للإعلام الجماهيري” على صفحتها في موقع “تويتر” قائلة: العديد من المنظمات الدينية تعرب عن سعادتها بالزيارة الرسولية التاريخية للبابا فرنسيس إلى العراق وتؤكد التزامها بإعادة بناء مجتمع قائم على التضامن والأخوة”.
بعض المراقبين صرح بوجود أجندة سياسية ضد إيران وتركيا وراء زيارة البابا للعراق، لكن الوسائل الإعلامية الإيرانية قيّمتها بشكل إيجابي؛ في حين لم يثر حفيظة الأتراك سوى أحد الطوابع التذكارية التي أصدرتها حكومة إقليم كردستان العراق بمناسبة زيارته إلى أربيل، حيث يظهر الزائر الكبير على خلفية خريطة لكردستان تضم نصف الأراضي التركية!
بقي البابا فرانسيس في العراق لمدة أربعة أيام، شهدت نشاطات وفعاليات مكثفة، ما لفت انتباه جميع وسائل الإعلام العالمية إلى العراق بلد الحرب.. هدفت هذه الرحلة الرسولية التاريخية، من بغداد إلى أربيل عبر النجف وكركوش، إلى ترك رسالة سلام في بلد جريح مكلوم…
لقد وضع البابا اللبنة الأولى لاسترجاع العراق من أنياب المخلب الطائفي الإيراني؛ وحتى انتظار وضع اللبنة الثانية من قبل السياسيين ورجال الدين العراقيين، يمكننا التذكير بآخر تغريدة للبابا نفسه على التويتر في 10 آذار مارس 2021: “لنواصل صلاتنا من أجل العراق والشرق الأوسط. في العراق، وعلى الرغم من جلبةِ الدمار والأسلحة، استمرت أشجار النخيل، رمز الوطن، في النمو وفي أُتيان الأثمار. وهكذا أيضاً هو الأمر بالنسبة للأخوَّة: هي لا تُحدث ضوضاء، لكنها تثمر وتجعلنا ننمو”.
علي حافظ