أكادير ( المغرب ) – غزلان أمجود – الناس نيوز :
متكئات على وساداتهن متقابلات، بحرفية عالية تتحرك أصابع أيديهن، على حجر كبير توضع الثمرة القاسية وتدق بحجر آخر أصغر حجما، تزاح القشرة عن اللب، ومن ثم تستخرج النواة، بحركات دقيقة، وسرعة لافتة، فأكوام من الثمار في الانتظار.
هي مرحلة أولى فقط، ضمن عمليات شاقة ومركبة، تتوج بإنتاج زيت نباتي هو الأندر في العالم. دأب توارثته نساء ريف جهة سوس المغربية، فهن اللائي ينتجن زيتا نفيسا خالصا، غزا الدنيا طولا وعرضا، حتى لقب بالذهب السائل. زيت أركان، مثار تنافس كبريات شركات التجميل من كافة الدول، وتهافت المستهلكين من كل الأرجاء.
شجرة منقطعة النظير.
تنمو شجرة أركان التي يستخرج الزيت من ثمارها في منطقة واحدة دوناً عن غيرها من بقاع العالم، هي منطقة سوس جنوب غرب المملكة المغربية.
ورغم نجاح محاولات بعض الدول كإسرائيل في استنباتها، فإن متخصصين أكدوا أنها لم تتمكن من إنتاج أشجار قادرة على التكاثر التلقائي بعيدا عن بيئتها الأم في الجنوب المغربي.
تنبت هذه الشجرة العجيبة بشكل طبيعي، دون الحاجة إلى سقيها أو الاهتمام بها، وتتميز بمقاومتها العالية للحرارة، وعدم تأثرها بالجفاف.
كما أن لشجرة أركان مميزات إيكولوجية مهمة تتمثل خصوصا، في قدرتها على حماية التربة وتحسين المجال النباتي.
وقد عرفها المغاربة منذ زمن بعيد، واستخدموا زيتها في طبخ أشهى الوجبات الغذائية المحلية، من قبيل الطاجين والكسكس والعصيدة. ويصنف هذا الزيت الذي يوصف بالمعجزة، إلى نوعين؛ واحد يؤكل، وآخر يستخدم للعلاج والتجميل، بالنظر إلى فوائده الجمة. فوائد أثبتتها الأبحاث العلمية الكثيرة التي أجريت حول أركان، إذ بينت قدرته الكبيرة على خفض الكوليسترول في الجسم، وتسهيل الهضم وخفض الضغط وتسهيل مرور الدم عبر الأوعية، علاوة على مساعدة الأطفال على النمو وتزويد أجسادهم بالطاقة.
هذا وثبت علميا، أن زيت الأركان غني بمركبات تعالج الإصابات والتقرحات الجلدية والحروق الناتجة عن التعرض للشمس، كما يحد من شيخوخة الخلايا الجلدية، ويضفي نضارة على البشرة. وكلما اكتشف العلم المزيد عن مزايا ثمرة هذه الشجرة، ازداد التنافس في الهيمنة على أكبر منتوج منها، لتوسيع استخراج زيت ثمارها، وتسويقه لمختلف الأغراض الطبية العلاجية، والتكميلية كالصناعات التجميلية والوقائية.
نساء سوس.. مزودات أسواق العالم .
زيت أركان نسوي بامتياز، ولتثمين إنتاجه، تشكلت مئات “التعاونيات” لتزويد السوق المحلية والدولية به، في إطار الاقتصاد التضامني الذي يهدف لإعانة الفئات الهشة في الوسط القروي. ولعله ما دفع نساء بوادي جهة سوس للانخراط بشكل مكثف في العمل الجماعي المنظم، ليدر الدخل ويحسن الوضعية المادية. غير أن المفارقة؛ لتر واحد من زيت أركان يستنزف زهاء 3 أيام من العمل المتواصل والمنهك، ليباع ب 200 درهم فقط، في السوق المغربية (ما يعادل 20 دولارا).
مراسلة جريدة ” الناس نيوز ” الأسترالية الإلكترونية زارت إحدى التعاونيات النسائية المنتجة لزيت أركان، ببلدة تدعى “التمسية”، على بعد 18 كلمترا من وسط أكادير، على الطريق المؤدية إلى مدينة تارودانت. تعاونية “تيمدوكال” تضم نحو 50 امرأة يعملن بشكل يومي، 9 ساعات لإنتاج زيت الأركان.
تقول رئيسة التعاونية، خديحة كريمي، إنها أسست هذا المشروع قبل 4 سنوات برفقة أختها وبعض نساء عائلتها، لتنضم إليهما أخريات من القرية.
وتضيف: ” في البداية اتخذنا من صالة المنزل مقرا للعمل، قبل أن يتوسع الإنتاج، ويرتفع الدخل المادي، لنقوم باستئجار قاعة كبيرة، جهزناها بمكتب، وآلات للطحن والعصر”.
وشددت على ضرورة حماية أشجار أركان” ، وإن لم نفعل ذلك، لن يتوفر للنساء أي عمل آخر خارج المنزل لإعالة ذواتهن وأسرهن”.
من ناحيتها، أبرزت مسؤولة التسويق، نجاة الوافي، أن نساء التعاونية يعملن بمبدأ الشراكة، ولسن أجيرات. وأكدت أن هم التعاونية في بداية مسارها، كان
التعريف بنفسها وبمنتوجها، وربط علاقات مع الزبائن، والانفتاح على الأسواق. مشيرة إلى أن منخرطات التعاونية آمن بأنفسهن وطموحهن، ما مكن إنتاجهن من الوصول إلى أسواق أوروبية وخليجية، بفضل أفراد الجالية المغربية.
لانتاج زيت أركان..رحلة مضنية .
يعتبر موسم الحصاد أولى مراحل إنتاج زيت أركان ، حيث تبدأ الثمار بالظهور وتسمى في هذه المرحلة بالأمازيغية (اللغة المحلية ) “بلزيز” أو الثمرة النيئة. تقوم النساء بجمع “بلزيز”، من الأراضي التي يكون أغلبها ملكيات تشترك فيها عدة عائلات، قد يصل عددها إلى 10، و قد تنفرد به عائلة واحدة. وفي حال الأراضي المشتركة، فلابد أن يتواجد ممثلون عن كل عائلة حتى تبدأ عملية الجمع.
بعد تجميع المحصول، يتم تقسيمه حسب حصة كل عائلة، ومن ثم يحمل في سلال تسمى “أريال”، وهي سلال كبيرة مصنوعة من القصب.
يخزن المحصول في أكياس من الخيش، إلى أن يتم تجفيفه تحت أشعة الشمس ، ومن ثم تقوم النسوة بتهشيم القشرة الداكنة المحيطة بالثمرة المسماة “ألوماس” لاستخراجها، فيما تستعمل القشرة كعلف للماشية.
يجري تكسير الثمرة للحصول عى البذرة الموجودة داخلها، ويطلق عليها “تيزنين”، أما القشرة الخشبية فتستعمل في إيقاد النار للطبخ.
يتم تحميص “تيزنين” وطحنها في الرحى الحجرية الدائرية المصنوعة من الطين، أو في آلات استحدثت لذات الغرض، حتى تصبح على شكل عجينة تسمى “تزكموت” ، يضاف إليها الماء الساخن و الملح لفصل العجين عن سائل الأركان. بعد إتمام هذه المراحل الشاقة والدقيقة، يتلألأ زيت أركان وهو يتدفق برائحة زكية تعبق الأنوف وتفتح الشهية.
على مر السنين … شجرة معطاءة .
وفق إحصائيات المندوبية المغربية للمياة والغابات ومحاربة التصحر، تبلغ المساحة التي تحوي شجر أركان أكثر من 800 ألف هكتار، مع العلم أن تهديد غابات أركان له تأثير إيكولوجي كبير، نظرا للدور الذي تلعبه هذه الشجرة في محاربة التصحر،.
كما يمتد تأثير ضياع غابات أركان إلى الجانب السوسيو اقتصادي، لأن إنتاج زيت أركان ومشتقاته، يوفر 7 ملايين يوم عمل عائلي في السنة، ويرتبط به حوالي 3 ملايين مغربي بشكل مباشر وغير مباشر.
ويرجح باحثون، أن تاريخ شجرة أركان يعود إلى العصور الوسطى، بعمر يناهز 65 مليون سنة. كما و ورد في بعض الكتابات التاريخية، أن سفراء المغرب كانوا يسافرون إلى دول أخرى ويحملون معهم زيت أركان في عهد الدولة الإسماعيلية.
وعلى مر السنين، شكلت النساء في مناطق أركان حاملات رئيسيات لمعارف فريدة من نوعها مرتبطة باستغلال أركان، من عملية قطف الثمار وتجفيفها إلى إزالة اللب والتكسير والفرز والطحن ثم الخلط، وما يرافق ذلك من أغان وأهازيج شعبية.
هذه التقنيات والمعارف قديمة جدا، فكسر ثمرة أركان لا يمكن لأي آلة في العالم أن تنجح فيه مع الحفاظ على نواته، وذلك يتطلب استعمال حجرين منحوتين بزاويتين بشكل محدد.
وقد أدرجت منظمة اليونسكو للتربية والثقافة والعلوم، التابعة للأمم المتحدة، كل الممارسات والمعارف المرتبطة بشجرة الأركان ضمن اللائحة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي للإنسانية.
هذا وأعلنت ذات المنظمة ، في عام 1999 مساحة الأرض، في منطقة سوس، التي تنبت فيها أشجار الأركان، محمية طبيعية. وأخضعت غابات أركان في مدينتي أكادير والصويرة، للضوابط التي تضعها لحماية هذه الشجرة الفريدة من الانقراض.
أركان في مجابهة كورونا
بينما تراجع الطلب العالمي على كثير من المنتجات جراء الوضعية التي فرضها تفشي جائحة كورورنا، حافظ زيت أركان المغربي على زبائنه، بل إن الطلب تزايد عليه من مختلف الدول. هذا ما أكده تقرير حديث صادر عن منظمة ”أوريون ماركت ريبورت OMR”، المتخصصة في إعداد تقارير وأبحاث حول مواد استهلاكية.
شبح الاندثار .
وفيما تقلصت المساحة الإجمالية لغابات أركان من مليون ونصف مليون هكتار خلال العقود الماضية إلى أقل من 828 ألف هكتار، تحذر هيئات حقوقية وزراعية وصحيّة ، من التهديدات التي تواجه هذه الشجرة، باعتبارها رمزا ثقافيا للمنطقة، معرضة لخطر الانقراض.
وشدد خبراء، على ضرورة المحافظة على المجال البيئي لأركان، وحماية المنطقة من التعرية والتصحر، بالإضافة إلى غرس أشجار جديدة وتشجيع الاستثمارات في هذا المجال.