ثلاث سنوات سجن اثنتان منها مع وقف التنفيذ كان الحكم على الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا سركوزي في قضية تنصت، هو ثاني رئيس فرنسي يُدان في ظل الجمهورية الفرنسية الخامسة بعد الرئيس الراحل جاك شيراك، وأول رئيس فرنسي يصدر بحقه حكم بالسجن مع النفاذ، وقد استأنف ساركوزي هذا الحكم في تهمة مساعدة قاضٍ على الحصول على وظيفة مرموقة في موناكو مقابل معلومات عن تحقيق يتعلق بقضية تمويل حملته الانتخابية، بشأن مخالفات تمويل حملته الانتخابية إضافة إلى تحقيق آخر حول ما إذا كان تلقى أموالاً من ليبيا لتمويل حملته للانتخابات الرئاسية التي فاز بها في عام 2007 ثلاثة احتمالات لنتيجة استئناف ساركوزي هذا الحكم، إما البراءة أو إبقاء الحكم على حاله أو رفع مستوى درجته. لا يأبه القضاء الفرنسي لا بشخص الرئيس ولا بمقام الرئاسة ، لأن مسؤوليته ( القضاء ) صيانة القانون وسيادته على الجميع ، لمن يطيب للبعض أن يعترض على مثل هذه المحاكمات بوصفها تطال “مقام” الرئاسة الذي برأيها لا يُطال ، هذه قناعة زرعتها الأنظمة المستبدة في ذهن جماهيرها المغلوبة … لكن ذلك غير ممكن في فرنسا التي لا تشبه العالم العربي .
في الديمقراطيات التي تحمي السلم الأهلي بعمودها ومحورها الضامن وهو القضاء يفترض أن يكون رئيس البلاد كغيره من المواطنين فيما يخص حقوقه وواجباته وهو في الأساس موظف لدى الشعب يقوم بخدمته وما يتقاضاه من راتب أو مخصصات لعمله مقتطع من أموال المواطنين دافعي ضرائبهم ، وهو واحد منهم في تسديد الضرائب على دخله.
في الديمقراطيات مراقبان لأعمال رئيس البلاد وغيره من المسؤولين، واحد هو المعارضة والثاني هو القضاء، قضاء نزيه أعلى من السياسة والسياسيين. وجهتان كافيتان للمحاسبة ودرء أي انزلاق لرئيس البلاد. بديهي القول أن لا أحد مُنَزه عن نقص أو معصوم عن خطأ سوى الذي لا يعمل، وحدهم الذين يعملون يخطئون، والقضاء رقيب فاعل فوق أي موظف في مؤسسات الدولة الديمقراطية من قاعدة هرمها إلى رأسه منبهاً إلى خطورة أي انزلاق على شخص الفاعل أولاً. لائحة السياسيين الفرنسيين الذين واجههم القضاء الفرنسي بأحكام ليست قصيرة، فإضافة إلى الرئيسين نيكولا ساركوزي وجاك شيراك هناك رئيسا حكومة سابقان هما ألان جوبيه وفرانسوا فيون، الأول حكم عليه بالسجن مع وقف التنفيذ لمدة ١٤ شهراً ومنعه من الترشح لمدة سنة، والثاني واجه حكماً عليه بالسجن خمس سنوات ثلاث منها مع وقف التنفيذ ودفع غرامة 375 ألف يورو ، وإعادة مبلغ مليون يورو إلى البرلمان الفرنسي وقد استأنف الحكم. كذلك أمضى رئيس الحكومة الفرنسية الأسبق إدوار بلادور فترة مواجهة طويلة مع القضاء في “قضية كراتشي” حول شبهات بتمويل غير مصرح به لحملته الانتخابية عام ١٩٩٥ قبل أن يُبَرأ من هذه القضية هذا العام.
مع الشعبية الواسعة التي يمكن أن يكتسبها هؤلاء القادة السياسيون الفرنسيون على الأقل في صفوف الأحزاب التي ينتمون إليها، لم تخرج أي تظاهرة ولو محدودة في العدد للتعبيرعن دعم شعبي لأي منهم. هي الثقة بالقضاء نزيهاً وحاكماً حقيقياً وحكماً، وهو الحامي من ثورات ليست ضرورية أو انقلابات. وكمثال وليس حصراً يُطرح في هذا السياق السؤال هل كانت ثورة ٢٥ يناير كانون الثاني في مصر والتي أفضت إلى تنحي الرئيس المصري الراحل محمد حسني مبارك بعد ثلاثين عاماً متتالية أمضاها في سدة الرئاسة ضرورية، وهل كان الانقلاب ضرورياً على الرئيس السوداني الراحل جعفر نميري بعد ١٦ عاماً متتالية أمضاها في هذا المنصب لو أن القضاء وحده حسم الأمر فيما يمكن أن يكون قد حصل من تجاوزات أو انزلاقات ما وفر على المعترضين الغاضبين تحركهم ؟ أكتفي بذكر تجربتي مصر والسودان ، أرفعهما من لائحة أسماء بلدان عديدة في العالم عربية وغير عربية لم يبلغ فيها القضاء وحده درجة الحاكم والحَكَم ليوفر على شعبها الثورات والانقلابات والدماء وهدر الثروة البشرية والاقتصادية . وبالتالي ماذا بوسع القضاء أن يفعل إذا كانت السلطة الأمنية أقوى منه أو أن يكون مرتهناً من وراء الستار للسلطة السياسية؟ كم هو الفارق كبير بل لا مجال أبداً لقياس الفرق بين القضاء المؤسساتي الحيادي الصرف وقضاء السياسيين والعسكر؟ ولا تشابُهَ أبداً بين “القدر” في الأول و “القدر” في الثاني ، فيما أعتقد.
محمد كلش