ميشيل سيروب – الناس نيوز:
مُفردات الرواية تعتمد على قصص الحب، وجمالية الروح العراقية في زمن الحصار. ناديا، شروق، مروة، بيداء، نماذج أنثوية وشخصيات لها حضور إنساني جميل في حي المحلة البغدادي. تبحث تلك الشخصيات عن نصفهن الآخر في زمن الحرب.المدرسة والملجأ ينكشفان على مسرح السرد في الرواية. تنتمي القصص المُتسلسلة، كجنس أدبي لعالم الفنتازيا(نوع أدبي يعتمد على الخيال العجائبي في السرد، كقصص ألف ليلة وليلة) تعتمد شهد الراوي على سرديات الطفولة ثُمَّ المراهقة وأخيراً سنوات الشباب لوصف تفاصيل الحياة والعلاقات الحميمية بين أهالي ذلك الحي. لكن ماذا عن المدينة؟ ماذا عن بغداد؟ تتحول المدينة إلى ثكنة، تتمسك بطلة الرواية بالأمل، تُريد الطيران مع تلك الطيور التي بلا وطن، تبحثُ عن عالمٍ بلا حروب في سماء زرقاء لقد تعبتْ من الحروب. بناية المدرسة الأبتدائية تحولتْ إلى ثكنة عسكرية، بناية المدرسة المتوسطة: مستودع للصواريخ، وفوق كل البنايات انتصبتْ مُضادات الطائرات وهي تهدر. تتجنب الروائية شهد الراوي وبذكاء الغوص في مُفردات عالم السياسة، لكنه القدر:الجغرافيا جعلت الأرواح بلا عمق، أما ما يخص التاريخ، فهو تراجيديا لسرد طويل غير متصل، فقط تاريخ الألم هو النهر الوحيد الذي يجري في عروق النهرين العظيمين ويقيم مع الحزن صداقة أبدية. هذا ما تكتبه شهد عن جدلية الجغرافيا والتاريخ في بلاد الأمجاد الغابرة.
بلغة ركيكة مُحببة(تتعمد الكاتبة السرد بلغة الأطفال)، تتشارك بطلة الرواية أحلامها مع صديقتها وتحاول الدخول في عالم ناديا السري، صديقتها الحميمة، كي تكتشف العالم برؤية أخرى أكثر جمالاً، وكي تروي عن مآسي الحصار والحروب المتتالية التي عانت منها هي وجيلها، الحالمات بغدٍ أجمل تقول مروة بألم:” لماذا عليَّ أن أشهد كل ذلك في حياة واحدة؟ حرب في الطفولة، وحصار في المراهقة، وحرب جديدة بأسلحة ذكية ومتطورة وأنا لم أبلغ العشرين بعد، كيف لإنسان طبيعي أن يروي سيرته الشخصية عندما يكبر وهو ينتقل من حرب إلى أخرى”.
عام 2003، يؤرخ لِرُباعية: التعسف، الاحتلال، الإرهاب والمقاومة. بالرغم من التأكد من موعد وقوع الحرب والغزو على وقع الأناشيد الحماسية، كان الاِعتقال التعسفي يطال أهل المحلة، وكان سبباً إضافياً للرحيل وبيع البيوت يوماً بعد يوم. تبدأ معركة العبوات الناسفة وتحطيم جبروت المحتل واستهداف سيَّارات الهمر وتحذير الأهالي من التعاون مع العدو، كانت المنشورات تتوعد المتعاونين. غزتْ عبارة(الموت للخونة) جدران المدارس والبيوت. تُميز شهد الراوي بين النضال الوطني ضد المحتل من جهة، وبين الإرهاب من جهة أخرى، بعد أيام من رحيل عائلة أم ريتا،” دخل غرباء للبيت، رموا تمثال العذراء خارج البيت، وأعادوا ترميمه ولوَّنوا جدرانه بألوان فاقعة وكتبوا على الواجهة:هذا من فضل ربي”.
تضيقُ مساحة العقل لتفسير ظاهرة الحرب المُتكررة، يلجأ الناس إلى الخرافة والشعوذة وقراءة الأبراج. باختناق الأمل يتعلق أهل المحلة بتأويلات المشعوذ، الشخصية التي تنتمي لعالم الفنتازيا والغرابة، يعمل المشعوذ على تفسير بوادر العاصفة الوشيكة التي تُهدد وجود الناس.أما المستقبل فهو مُفردة مُكررة في قاموس شهد الراوي، طالما المستقبل حتمي فلماذا نسعى إليه؟ هذا ما تستنتجه الروائية بعد مُعاناة أهل المحلة، يبقى الماضي والحاضر بكل قسوتهما أجمل من المستقبل! تستعرض الروائية نجاحات كاظم الساهر كنموذج مقاوم، هل نجومية كاظم الساهرهي وليدة الأمس أم تحمل في طياتها أمل للشباب؟ الرواية لا تعتمد تكنيك الرواية التقليدية، بل لقد صنفها بعض النقاد كرواية ما بعد الحداثة!(تعتمد الرواية على تقنيات السرد مثل التجزؤ والتناقض وازدراء المركز وتبني سياسة الضحايا)الرواية دفاع عن الهوية الوطنية العراقية ضد الطائفية وثقافة الطين السائدة في عراق اليوم برعاية عمائم الظلام، وهي أيضاً عن شخصية العراقي الطيب واللطيف(عمو شوكت) الغيورعلى الحارة وشرفها وقيمها بدفاعه المستميت عن كل ما يهدد أهل المحلة.
تحولت قرية ماكاندو في رواية مئة عام من العزلة لماركيز(1927-2014 كولومبيا)، إلى مدينة بلا بوصلة، لا جهات لها، ساعتها لم تعدْ تعمل على ذات الإيقاع” لقد قلبوا القرية في لحظة واحدة، ووجد أهالي ماكاندو أنفسهم فجأة ضائعين في شوارع قريتهم، مشدوهين بذلك المهرجان الحاشد”ص252. أما عن بغداد” فقد أصبح الناس مختلفين اختلافاً شديداً في العقائد والآراء،والأزياء، والتسريحات، والأذواق في الطعام، والشراب، والمنام، والجلوس، والمسير، والوقوف”ص261.
قُوبلتْ الرواية بردات فعل عنيفة كونها لامست مُفردات عن التابو(السياسة والجنس وجرائم الشرف والإرهاب)، وطرقتْ أبوابا موصدة كانت مُغلقة في عالم السرد الروائي. يحتل الكلب “برياد” مساحة واسعة في حياة أهل المحلة ويتحول إلى “كائن” يعتمد لغة الجسد والإيماء للتعبير عن مودته أو سخطه في تلك البقعة من عاصمة الرشيد. يتحول ليل بغداد إلى جهنم تُناجي مروة الغزاة” أيها الطيار كُنْ رحيماً بنا، لا تخدش هذه السماء، لقد ربيناها بالأحلام، والأدعية، والضحكات، والأغاني، وولولة الأمهات”.
________________________________
*شهد الراوي شاعرة وروائية عراقية من مواليد1986، تُرجمتْ رواية “ساعة بغداد” لتسع لغات أجنبية ونالتْ الرواية جائزة أدنبرة للأدب المُترجم. بلغت الرواية للقائمة القصيرة للرواية العربية(البوكر) لعام 2018. لشهد الراوي أيضاً رواية تحت الطبع: فوق جسر الجمهورية.