[jnews_post_author ]
يدين السوريون لبيروت بالكثير، لذلك وقعت مأساة بيروت الأخيرة عليهم كالصاعقة. بيروت هي التي احتضنت السياسيين السوريين الذين اضطهدهم نظام البعث على مرّ عقود. إلى بيروت فرّ خالد العظم صبيحة 8 آذار 1963 المشؤوم. وإليها لجأ أكرم الحوراني وصبري العسلي وكثيرون آخرون.
وبيروت حضنت المثقفين السوريين كأنهم أبناؤها. ففيها عاش أدونيس ونزار قباني وعمر أبو ريشة. واحتضنت المنفيين العرب من كلّ الأصقاع، فعاش فيها العفيف الأخضر ومحمود درويش وسعدي يوسف.
ونشرت بيروت شعر السياب وبلند الحيدري ومحمود درويش وأدونيس، ونشرت كتب محمد عابد الجابري ونصر حامد أبو زيد وروايات نجيب محفوظ الممنوعة في مصر.
وبالنسبة لي شخصيا، كانت بيروت كريمة معي مرتين.
في صباح 8 آذار 1963، هرب والدي، أحمد نورس السواح، من انقلاب البعث مثله مثل كثرة من السياسيين والصحفيين السوريين الذين خافوا على أنفسهم. وقصد والدي بيروت فكانت كريمة مع أبي. أقام فيها حتى الخريف من ذلك العام، وفتحت له الجرائد البيروتية صفحاتها ليكتب ويكسب بعض المال الذي كان يرسله لنا في حمص. وحين بدأت العطلة الصيفية سافرنا أنا وأمي وأخواي سحبان وبشار إلى بيروت لرؤية والدي. أخي الأكبر فراس لم يصحبنا؛ كان في الجامعة ولديه ما يشغله. وأما أختي مها فكانت قد أنجبت للتو ابنها البكر سامر في حماة، وما كان بمقدورها مرافقتنا.
وفي نيسان 1979، كان دوري في اللجوء إلى بيروت، هربا من الأسد الأب. ومن جديد، استقبلتني بيروت إذن فاتحة ذراعيها، كما استقبلت والدي قبل ست عشرة سنة، بالكرم ذاته والدفء عينه. ومع ذلك فقد كانت مدينة مختلفة. كانت الحرب قد غيّرت إلى حدّ كبير معالم المدينة التي كانت ما تزال كالخيال في خاطري. كانت آثار الرصاص الذي اخترق جدران البنايات نابية كبثور حَبّ الشباب على وجوه الصبايا. وفقدت بعض البنايات طرفا منها أو خسرت طابقها العلوي. وانتشر المسلحون في أحياء بيروت الغربية، من كلّ لون ومن كل حدْب. فتْح والجبهة الشعبية وشقيقتها الديمقراطية والقيادة العامة وابنتها جبهة التحرير الفلسطينية، الحزب التقدمي الاشتراكي، المرابطون، جماعة كمال شاتيلا، الحزب السوري القومي، وعشرات الدكاكين الأخرى. تحتلّ كلّ جماعة شارعا، وتسدّ منافذه بحواجز يقف عندها شبان دون العشرين، يطلبون منك بطاقتك الشخصية.
وفي بيروت عملت محررا وكاتب عمود، في جريدة جبهة التحرير الفلسطينية. كان مرتّبي 600 ليرة لبنانية. كان مبلغا ضخما في تلك الأيام، مبلغا يكفيني ومعي ثلاثة رفاق آخرين لنعيش بنصفه ونرسل نصفه الآخر إلى الرفاق في دمشق. كان مقرّ الجريدة في الفاكهاني، الجمهورية المستقلّة التي كان يحكمها ياسر عرفات، ويترك قصدا هامشا للمنظمات الفلسطينية الأخرى والحركة الوطنية اللبنانية للحركة والاستعراض. في استراحة الغداء في أحد الأيام، نزلت أشتري سندويشة شاورما. عند بائع السندويش عند تقاطع شارع أبو شاكر مع شارع عمر الزعنّي. كنت بانتظار السندويشة عندما بدأت حولي حركة مريبة، بدأ الرجال والنساء ينسحبون من الشارع بسرعة، وأغلقت المحلات أبوابها بسرعة، وتراكض خلفي حفنة من الشباب بأسلحتهم. وجدت نفسي بعد دقيقة وحدي في الشارع أتلفّت يمنة ويسرة ولا أعرف شيئا مما يدور حولي. أخيرا، انقذف من داخل أحد الدكاكين شاب أسمر متين البنية، جذبني من ذراعي بقوّة وأدخلني الدكان عنوة. وما كدت أدخل وينزل الباب المعدني علينا، حتى فتحت جهنّم أبوابها في الخارج. لعلع الرصاص بجنون. حولي كان بضعة رجال ونساء، كانوا يتبادلون الحديث وكأن شيئا لا يحدث في الخارج.
في بيروت أعدت علاقتي مع البحر والروشة ورصيف عين المريسة الرحب السهل الواسع، الذي كنت أشعر أنه يتسّع لكلّ السوريين. وفي بيروت تعرفّت على سيجارة الجيتان بدون فيلتر، وكنا نسمع أن مصانع جيتان مملوكة للحزب الشيوعي الفرنسي، فأقبلت عليها. وبغض الطرف عمّن يملكها، فقد كانت تلك من ألذّ السجائر التي جرّبتها في حياتي. وأحببت في بيروت الكرم والكياسة. ثمّة كرم في كلّ شيء: في صحن الحمّص وسندويشة الشاورما وكعكة الكنافة بالجبن، ولياقة في الخدمات نفتقدها في سوريا.
كنا في أيام الأحد وبعض أيام الأسبوع (ثلاث مرّات في الأسبوع) ننزل من بيتنا إلى شارع الحمراء، فنسير فيه متمهّلين، نتأمل الجمال الفاتن من حولنا: صبابا جميلات وأزياء جميلة وشباب ومحلات نظيفة وأنيقة. وكنت أتساءل كيف كان البيروتي يحافظ على جمال مدينته، رغم الحرب والدمار والموت والخوف. ولم أكن أجد جوابا، إلى أن اجتاحت المدينة جحافل حزب الله، فبدّلت في معالمها وأخلاقها وكياستها. يا حبالتاي ! وحين لا نذهب إلى الحمراء، ننزل إلى الروشة بملابس السباحة، فنسبح بضع ساعات.
قبل سنوات كثيرة أحس شاعران ملهمان بعظمة بيروت وبغيرتنا منها وحقدنا “المخبوء” عليها لجمالها وفتنتها وسحرها. فكتب نزار قباني:
نعترفُ أمامَ اللهِ الواحدِ
أنّا كُنّا منكِ نغارُ
وكانَ جمالكِ يؤذينا
نعترفُ الآنَ
بأنّا لم ننصفْكِ .. ولم نعذُرْكِ .. ولم نفهمْكِ
وأهديناكِ مكانَ الوردةِ سِكّينا
نعترفُ أمامَ اللهِ العادلِ
أنّا راودناكِ
وعاشرناكِ
وضاجعناكِ
وحمّلناكِ معاصينا
يا ستَّ الدنيا، إن الدنيا بعدكِ ليستْ تكفينا
الآنَ عرفنا .. أنَّ جذوركِ ضاربةٌ فينا
الآنَ عرفنا .. ماذا اقترفتْ أيدينا
*****
أما العملاق الفلسطيني محمود درويش فاعتبر بيروت خيمتنا الأخيرة:
بيروت خيمتُنا الأخيرةْ
بيروت نجمتُنا الأخيرةْ
أُفُقُ رصاصيُّ تناثر في الأُفق
طُرُقٌ من الصدف المجوَّف… لا طُرُقْ
ومن المحيط إلى الجحيم
من الجحيم إلى الخليج
ومن اليمين إلى اليمين إلى الوسطْ
شاهدتُ مشنقةً بحبلٍ
واحدٍ
من أجل مليونيْ عُنُقْ !
*****
يا حبالتاي! لم تعد بيروت خيمتنا الأخيرة!