أحمد عزيز الحسين – الناس نيوز ::
صدر مشروع (قضايا وشهادات) في بداية التّسعينيّات من القرن المنصرم عن (دار عيبال) في قبرص بوصفه كتاباً ثقافيّاً دوريّاً، وضمت هيئة تحريره كلا من عبدالرحمن منيف، وسعدلله ونوس، وجابرعصفور، وفيصل دراج، وقد التزم فريق البحث المساهم في تحريره بقيم عصر النّهضة العربيّة المنفتح على عصر الأنوار الأوربيّ، وصدرت منه ستّة أجزاء أو ستّة كتب، ثمّ مالبث أن توقّف لأسباب بيروقراطيّة وأيديولوجيّة يأتي في مقدِّمتها رغبة الجهة المُموِّلة للمشروع بالهيمنة عليه، وتكييفه لرؤيتها الفكريّة ممّا حال دون استمراره.
وقد استُقبل المشروع عند صدور الجزء الأوّل منه بحفاوة كبرى في سورية والوطن العربيّ، وبِيْع منه بشكل شخصيّ في حلب وحدها كميّة كبيرة كما ذكر لي محمّد جمال باروت، فضلا عمّا بيع منه في المكتبات السّوريّة والعربيّة، وهذا ما أدّى إلى نفاد العدد الأوّل منه، وفيما يأتي الموضوعات المحوريّة التي عالجتها أجزاء المشروع السّتّة :
– الكتاب الأول : طه حسين – العقلانيّة، الدِّيموقراطيّة، االحداثة .
– الكتاب الثاني : الحداثة (1) ، النّهضة، التّحديث، القديم والجديد .
– الكتاب الثالث : الحداثة (2) ، الوطنيّ، الاختلاف، حداثة الآخر.
– الكتاب الرّابع : الثقافة الوطنيّة (1) ، التّبعيّة، التُّراث، الممارسة.
– الكتاب الخامس: الثّقافة الوطنيّة (2)، الوطنيّ، العقلانيّ، الكونيّ.
– الكتاب السّادس: الثّقافة الوطنيّة (3)، الأدب، الواقع، التّاريخ.
وقد ظهر مشروع الكتاب المذكور إثر إعلان البيروسترويكا في الاتّحاد السّوفياتيّ السّابق مُنبِئاً عن تبلور اتّجاه بين المثققّفين الماركسيِّين المستقلِّين عن الأحزاب الشّيوعيّة (المُسفْيَتة)، ورأى أصحابه أنّ هذه الأحزاب وقفت موقفاً جدانوفيّاً من عصر الأنوار العربيّ، وحالت دون إدراك المثقَّف الدِّيموقراطيّ العربيِّ لأهميّة الثّقافة التّنويريّة البرجوازيّة العربيّة التي طرحت شعارات: العقلانيّة، والعلمانيّة، والدّيموقراطيّة، بوصفها مفاتيح نظرية لربط الثّقافة الدّيموقراطيّة العربيّة بماضيها الثقافيّ الذي حارب من أجل العقلانيّة، وكرامة الإنسان، وبناء مجتمع مدنيّ تكون فيه المصلحة العامة مُتّكأ للقول والفعل والمبادرة؛ ولذك طرح المشروع الماركسيّ (الجديد) على نفسه جملة مَهمَّات من بينها: استيعاب المشروع التّنويريّ الدّيموقراطيّ البرجوازيّ العربيّ، واكتشافُ رموزه، وإعادة دراستها وتجذيرها في السّياق الثّقافيّ العربيّ المعاصر، من خلال التّركيز على الميراث العقلانيّ، والعَلمانيّ، والدّيموقراطيّ الذي صاغه المنوِّرون العرب، وفي طليعتهم رفاعة الطهطاوي، وعلي مبارك، وعبدالرّحمن الكواكبيّ، وشبلي شميّل، وفرح أنطون، وطه حسين، وعلي عبدالرّازق وغيرهم.
وفق هذا المنظور تمّ تخصيص العدد الأوّل من (قضايا وشهادات) لطه حسين، الذي يمثِّل، في رأي أصحاب الاتّجاه المذكور، أحد الرُّموز الكبرى للمشروع التّنويريّ العربيّ، وقد جاء في تقديم سعدالله ونوس للعدد المذكور: ” لوصدر هذا الكتاب مذْ فكّرنا فيه قبل سنتين لكان طه حسين موضوع ذلك العدد، وكذلك الأمر لو تأخّرنا في إصداره سنتين أخريين؛ لأنّ كتاباً دوريّاً يتوخّى الدّفاع عن قيم العقل، وحلم المجتمع المدنيّ، والفكر التاريخيّ، والاستقلال، والتّقدُّم، ويحلم فوق ذلك بإحياء محاولات التّنوير العربيّ، وربطها في سياق متلاحم وفعّال لايمكن أن يبدأ إلا بطه حسين. وهل عرف تاريخنا المعاصر مشروعاً تنويريّاً جذريّاً وشاملا كذلك الذي صاغه طه حسين، وقضى حياته في بنائه والدّفاع عنه ؟؟“.
ويوضِّح ونوس هاجس العدد في مدّ الجسور بين الثّقافة الدِّيموقراطيّة العربيّة وماضيها الثّقافيِّ التّنويريّ العربيّ بقوله : ” لايرمي هذا الكتاب إلى مدِّ الاحتفالات باحتفال جديد (يقصد الاحتفال بالسّنة المئويّة لميلاد طه حسين)، بل يأمل أن يُسترَدَّ طه حسين بوصفه ضوءاً وعوناً في هذه الظُّلمة الحالكة التي نتخبَّط فيها، ونحن إذ نقول ” يُستَرَدَّ” فلأنّ انقطاعاً قد تمّ، وخطأ قد اقتُرِف، ولعلّ هذه الانقطاعات والأخطاء ما يفسِّر تفكُّك المشروع التّنويريّ العربيّ“، ويرى سعدالله، في الختام، أنّ مَهمَّة استرداد طه حسين وإدراجه في سياق الحاضر هي مسؤوليّة القوى والأحزاب لا المثقّفين فقط، وأمّا هذا الكتاب فإنّه موقف وشهادة “.
ويُسجَّل لونوس في مشروع (قضايا وشهادات) اكتشافُه لأهميّة المفكِّر ياسين الحافظ الرّاهنة، وهو مثقَّف ماركسيّ كبير ناصبتْه الأحزابُ الشُّيوعية (المُسَفْيَتَة) وبعضُ الأحزاب القوميّة العداء؛ لأنّه لم ينضوِ تحت رايتها، واختلف معها في مسائل عديدة من بينها ما دُعِي في الأدبيّات الماركسيّة العربيّة بـ (التّكوُّن الطبقيّ للمجتمع العربيّ)، و(الطبّقة الاجتماعيّة المُهيَّأة لتغييره). ومن آرائه أنّ ” المجتمع العربيّ لم يشهد تطوُّراً على النّسق الغربيّ، ولم تتبلور فيه طبقات بالمعنى الحقيقيّ والواسع للكلمة“، فكانت طبقاتنا على حدّ قوله ” كايكاتور طبقات“؛ الأمر الذي أفضى به إلى استنتاج (هيغلي) و(فيبري) مفاده أنّ المجتمع العربيّ (مجتمع بلا مجتمع مدنيّ): “شكل مرقَّع من الجماعات ماقبل المدنيّة المتماسكة” وبلغة الحافظ (جماعات لامجتمع)، تخترقها انقسمات عموديّة ما قبل مدنيّة لا انقسامات مدنيّة حديثة“.
والمعروف أنّ الأحزاب الشّيوعيّة العربيّة (المُسَفْيَتَة) كانت تُعتِّم على كتابات الحافظ والياس مرقص وأضرابهما، وترجمُهما، وتلعنُهُما، وتناصبُهما العداء، وتعمد إلى تغييبهما، وهذا ما دفع محمد جمال باروت / أحد باحثي قضايا وشهادات آنذاك، إلى كتابة دراسة مهمّة عنه في الجزء الخامس من المشروع بعنوان (ياسين الحافظ ومسألة الإنتـلجنسيا : من المجتمع العصبويّ إلى المجتمع المدنيّ)، وفيما بعد تبنّى باروت أطروحات الحافظ، وافتخر بتتلمذه عليه في كتابه (المجتمع المدنيّ : مفهوماً ومصطلحاً) الذي نشرته دار الصّداقة في حلب في عام 1995.
بقي أن نقول : لقد عكس مشروع (قضايا وشهادات) هموم سعدالله ونوس وهاجسه في خلق فعل ثقافيّ واجتماعيّ مضادّ للثّقافة الاستهلاكيّة الخدميّة في زمن الموات الثقافيّ العربيّ، وهيمنة الدّولة الشّموليّة العربيّة، وهذا ما أفضى بأعداء التّنوير والمجتمع المدنيّ إلى التّخلي عن المشروع والتّوقُّف عن تمويله كما قلنا، ممّا أجبر سعدالله وفريقه البحثيّ على التّوقُّف عن إصداره إلى أن قرّرت (دار كنعان) في دمشق إعادة تمويله من جديد بعد أربع سنوات من توقُّفه؛ فصدر منه في عام 2000 عددٌ واحد فقط خُصِّص للاحتفاء بـ ( تجربة سعدالله ونوس بعد رحيله) تحت إشراف هيئة تحرير جديدة ضمّت كلا من : عبدالرحمن منيف، وفيصل دراج فقط.
وقد اشتمل العدد المذكور على مجموعة دراسات حاولت قراءة فكر ونوس نفسه والحوار معه بوصفه صاحب مشروع أدبيّ ينطوي على مساهمة نوعيّة في بلورة المسرح العربي وتطويره . وأضاءت المساهمات المنشورة في الكتاب تجربة المسرحيّ الرّاحل من جوانب متعدِّدة؛ إذ اشتمل الباب الأوّل منه على مجموعة دراسات تطبيقيّة ونظريّة لعلي الرّاعي، وفاروق عبدالقادر، وسيّد البحراوي حاولت قراءة نصوص سعدالله ونوس، واستكناه دلالاتها، وتقصِّي ملامحها، والقبْض على التّصوُّرات النظريّة التي حاول ونوس إشاعتها وإطلاقها في الفضاء الثّقافيّ العربيّ، فيما تصدّى النّاقد فيصل درّاج لقراءة هذه التّجربة في ضوء توظيفها للتّاريخ وإعادة قراءته وتأويله من جديد، أمّا الباب الثّاني فضمّ قراءات في ( الذّاكرة والموت ) لعبدالرّحمن منيف، وقراءة أولى في (الأيّام المخمورة) لماري الياس، ودراسة بعنوان ( الخاصّ والعامّ في مسرح ونوس) لمونيكا روكو، كما اشتمل الكتاب أيضاً على مجموعة شهادات شخصيّة عن صاحب (طقوص الإشارات والتّحوُّلات) كتبها حليم بركات، وعاصم الباشا، وحسن م. يوسف، وإيزابيلا كاميرا.
وفي الظنّ أنّ مشروع (قضايا وشهادات) كان يعبّر عن حلم سعدالله ونوس وهاجس فريقه البحثيّ في إعادة إحياء قيم عصر النّهضة العربيّة، ومتابعته من حيث توقّف، ولكنّ هذا الحلم مالبث أن انطفأ مع هيمنة التّيبُّس والموات على الفضاء الثقافيّ العربيّ كلِّه، أو اتّخذ مناحي جديدة، وسلك سبلا مختلفة لموضعته وتحقيقه على أيدي من تبقّى من أعضاء الفريق نفسه : فيصل دراج، ومحمد جمال باروت، وجابر عصفور ( 1944-2022)، وهذا ما يستحقّ وقفة أخرى .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ناقد سوريّ.