ممدوح حمادة – الناس نيوز

لم ينتسب سعيد إلى الحزب الشيوعي نتيجة لتأثره بالفلسفة الماركسية، فهو قبل انتسابه للحزب لم يفتح أي كتاب له علاقة بهذه الفلسفة، كما أنه لم يفعل ذلك بعد انتسابه للحزب، ورغم سماعه للعديد من المحاضرات المتعلقة بهذا الموضوع في الاجتماعات الحزبية إلا أنه لم يكن يفهم منها شيئا، فقد كان في معظم الأحيان يشرد ويفكر في موضوع آخر لا علاقة له بالسياسة بتاتا، ولكنه كان يحفظ العديد من عناوين الكتب والشعارات التي يرفعها الحزب، وكان هذا كافيا ليصبح سعيد من عداد المثقفين ضمن معايير أم الطنافس، ولكن اعتباره مثقفا لم يكن كافيا لرفعه إلى مصاف الوجهاء في القرية، ولهذا فهو لم يصبح وجيها بسبب ثقافته ولكن بسبب ضيوفه، فبعد أن انتسب للحزب الشيوعي اتخذت حياته منحى جديدا فقد أصبح معظم زواره من الأطباء والمهندسين الذين كانوا أعضاء في الحزب الشيوعي ويأتون إلى القرية في مهمات حزبية، ولذلك فقد ارتفعت هيبة سعيد في القرية بشكل شاقولي، ففي غضون سنة تحول من شخصية مغمورة إلى شخصية يتباهى الجميع بمعرفته، خاصة وأن أحد المهندسين الذين كانوا يزورون سعيد كان في العام الماضي مشرفا على عملية تعبيد طريق القرية، وقد ارتفعت شعبية سعيد بشكل خاص بعد أن قام نائب البرلمان عن الحزب الشيوعي بزيارته، و الحقيقة أن تلك لم تكن زيارة بكل معنى الكلمة، فالنائب جاء ليقود اجتماعا حزبيا لبعض الكوادر الحزبية في القرى المجاورة، وكانت قرية سعيد تتوسط هذه القرى فاختير بيت سعيد مكانا للاجتماع كونه الرفيق الوحيد في القرية، ولأن مكانته الحزبية لم تكن تخوله بحضور الاجتماع فقد اقتصرت مشاركة سعيد في هذا الاجتماع بواجبات الضيافة، حيث إنه كان يقدم الشاي بين الحين والآخر وإذا احتاج أحدهم لمنفضة سجائر يقدمها له إضافة إلى إفراغ المنافض وغسلها كلما امتلأت أمام الرفاق، كما أنه ذبح خروفا ودعا بعض وجهاء القرية إلى الغداء على شرف النائب بعد انتهاء الاجتماع، أما النائب فقد جاء وذهب ولم يعرف من هو صاحب البيت، ولكن هذا لا يهم و يكفي اجتماع مثل هذا الحشد الغفير من الشخصيات رفيعة المستوى في بيته ليصبح سعيد أهم شخصية في القرية، حتى أهم من المختار، خاصة وأن أهل القرية لم يكونوا يميزون بين البرلمان والحكومة وبين النائب والوزير وكل هذه المؤسسات كانت تمثل لهم السلطة، ولذلك فقد أخذ سكان القرية يقدمون العرائض لسعيد بدلا من المختار، خاصة أن العرائض التي كانت تقدم لسعيد كانت تُنَفّذ بعد أن يوصلها سعيد للرفيق النائب عن طريق الحزب، أما العرائض التي كانت تقدم للمختار والذي كان بدوره يرفعها لمدير الناحية فقد كانت تهمل ولم تنفذ أي عريضة منها، وفي نهاية المطاف أصبح المختار نفسه يقدم العرائض إلى سعيد معترفا له بالمكانة الأولى في القرية عن طيب خاطر، وكان هذا يفوق مستوى الطموحات التي راودت مخيلة سعيد على شكل أحلام غير قابلة للتحقق، المختار في محاولة منه لوضع سعيد الغر في الحياة وبناء على نصيحة أحد معارفه الخبثاء قرر الانتساب إلى الحزب لكي يسلب سعيد هذه المكانة، ورغم أن سعيد استغرب من سليل الإقطاع هذا رغبته الثورية إلا أنه وافق بعد أن أطلعه على النظام الداخلي للحزب، وهكذا كتب المختار طلب الانتساب ووقعه وقدمه لسعيد الذي وعده برفعه للرفاق في أول اجتماع، وشعر ربما للمرة الأولى أنه فوق المختار، الذي تحول في لحظة واحدة إلى حشرة في عيني سعيد.
باختصار فإن انتساب سعيد للحزب الشيوعي كان مصدر فخر واعتزاز بالنسبة له ولكن كما لا يدوم حزن فإن فرحا لا يدوم، فقد تغيرت الأوضاع السياسية في البلد وأصبح الحزب الشيوعي ضمن قائمة الأحزاب الممنوعة وتم اعتقال كل من دارت حوله الشبهات في أنه ينتمي إلى هذا الحزب، وبطبيعة الحال فإن سعيد لم يكن ليستثنى من هذا الأمر، ولذلك فقد عاش في قلق رهيب وأخذ يعاني من الأرق ويقفز من فراشه كلما سمع حركة خارج المنزل ليلا، وكان متأكدا من أن أحد الحاسدين لمجده السابق في القرية لا بد سيستغل الفرصة للانتقام ويشي به إلى الشعبة الثانية، وكان سعيد محقا تماما في ظنه هذا، فقد كشر أكثر من عشرة من الحاقدين عن أنيابهم وشحذوا أقلامهم لرفع التقارير إلى الشعبة الثانية بخصوص سعيد، ولكن ما أعاقهم عن فعل ذلك هو طلب الانتساب الذي كان المختار قد وقعه قبل أيام من أجل الانتساب للحزب، فقد خشي المختار أن يعثر عليه أثناء التفتيش ويذهب “في خبر كان” كما عبر بنفسه عن ذلك، بداية حاول المختار الاحتيال على سعيد باسترداد طلب الانتساب بحجة أنه يريد أن يكتبه على ورق ملائم بدلا من تلك الورقة الصفراء التي يبدو أن سعيد اقتصها من كيس إسمنت، ولكن سعيدا أبلغه بأن الطلب أصبح عند الرفاق، ولم يعد عنده، وبأن هذه الأشياء تعتبر تافهة من وجهة نظر المناضل فليس من المهم شكل الورقة، بل ما هو مكتوب فيها، وهكذا عاد المختار خالي الوفاض مما جعل الذئاب الحاقدة على سعيد تتذمر لدرجة كادت معها أن تصدر عواء، ولكنهم قرروا الصمت إكراما للمختار، وهكذا فقد نجا سعيد بجلده كما يقولون بفضل طلب الانتساب المكتوب على الورقة الصفراء ذلك، وليس لأي سبب آخر.
بعد مضي فترة من الزمن استرد سعيد شعوره بالطمأنينة، وأخذ ينام بهدوء أكثر وفارقه الأرق نهائيا وأصبح بإمكان الجميع كما في السابق أن يسمعوا شخيره عندما يمرون ليلا من تحت نافذته، ورغم أن عدد الذين يلقون عليه التحية عندما يصادفونه في الشارع تقلص بشكل كبير، فإن سعيدا لم يكن ليعتب عليهم نتيجة هذا التحول، بل على العكس فإن تجاهلهم له ينقله إلى خارج دائرة الضوء ويجعل حياته أكثر هدوءا.
لكن الرياح لا تجري دائما كما تشتهي السفن كما سبق وقال الشاعر، ففي جدول كل اجتماع في فرقة سعيد الحزبية كان هناك بند يقض مضجعه، ألا وهو بند (النشاط الجماهيري) حيث يتوجب على كل رفيق أن يقدم تقريرا عن علاقاته مع الناس وعن مستوى الدعاية الحزبية التي يمارسها، وعن توزيع جريدة الحزب المحظورة، والذي ليس لديه علاقات جماهيرية كان كمن لا يملك ورقة توت يستر بها عورته، ولذلك لم يكن من الممكن لسعيد ألا يتحدث عند الوصول إلى هذا البند في الاجتماع، خاصة وأن لدى كل رفيق من أعضاء الخلية أربعة أو خمسة من أصدقاء الحزب، ولذلك فقد وجد سعيد في ابن عمه حسن منقذا من جحيم هذا البند وكان يقدم التقارير عن علاقته به بشكل دوري.
كان حسن يعمل راعيا للغنم، أميا لا يعرف القراءة ولا الكتابة، وكان يحب سعيدا ويعتبره مفخرة العائلة ولذلك فقد كان ما يقوله سعيد له بمثابة بديهيات لا تحتاج إلى النقاش، ولكن بما أن حسن يمضي جميع أوقاته تقريبا في البرية، فقد كان يجهل جميع التغيرات التي حصلت، ولذلك فقد كان لا يزال يعيش على أمجاد زيارة نائب البرلمان إلى بيت ابن عمه سعيد، وكان يعتقد أن الشيوعيين في السلطة، فنائب البرلمان هو أقصى سلطة سياسية يسمع بها حسن، وبما أن النائب شيوعي فإن السلطة شيوعية، ولهذا فإنه في كل قرية يتوقف فيها كان يتحدث عن الحزب الشيوعي مكررا العبارات التي ألقاها سعيد على مسمعه وكان يطنب في المديح ظنا منه أنه يمتدح السلطة، فكان يقول مثلا( يا أخي هالحزب الشيوعي ما في منه) أو (قل لي شو الحزب اللي بيعجبك بقلك الحزب الشيوعي، حزب العمال والفلاحين) أو ( ما حدا بيوقف بوجه الإمبريالية غير الحزب الشيوعي) وعندما سأله أحدهم ماذا تعني الإمبريالية؟ صفن طويلا قبل أن يجيبه( شغلة وسخة)، ولكن جوابه لم يقنع السائل فأردف (شو يعني شغلة وسخة؟) مما أوقعه في مأزق وجعله يتهم سائله بالغباء لأنه لا يعرف الإمبريالية.
وعندما كان حسن ينزعج من ظاهرة ما، كان يعرب عن ذلك قائلا ( لو كنت مسؤول في الحزب الشيوعي كنت عدمته، هذا مو بني آدم هذا، بس خيو شو بدك تعمل مافيهن يعدموا الكل )، ولذلك فسرعان ما وصل تقرير إلى الشعبة الثانية في جهاز الأمن يؤكد أن حسنا شيوعي.
قوبل التقرير في الشعبة الثانية بالسخرية، لأنهم يعرفون حسن جيدا فهو من يبيعهم الحليب واللحم والجبن وغير ذلك من المنتجات المرتبطة بالماشية، وكان بغبائه وسذاجته محط تندرهم الدائم، وأن تقول إن حسنا شيوعي فكأنك تقول إن الحمار يقرأ رباعيات الخيام، ولكن الرقيب الذي قرأ التقرير فضل أن يطلع عليه الضابط المسؤول قبل أن يلقي به في سلة القمامة تحسبا لمسؤولية قد تقع عليه، وعندما سأله الضابط عن إمكانية صحة هذه المعلومات قال:
- يمكن أن أصدق أنهم صعدوا إلى القمر ولكنني لا أصدق أن حسن يمكن أن يكون شيوعيا، هذا رأس طرش لا يفهم بمثل هذه الأمور.
- ( وكان الصعود إلى القمر في تلك الفترة ضرب من المستحيل، حيث لم يكن هناك وجود لأبولو بعد)
بعد ذلك مزق الضابط التقرير وألقى به في سلة القمامة مرجعا سببه لثأر شخصي بين كاتبه وحسن.
ولكن التقارير التي وصلتهم بعد ذلك والتي تتهم حسنا بأنه شيوعي جعلتهم يفكرون بالأمر ويرسلون دورية لتقصي الحقيقة.
عندما توقفت سيارة الشرطة أمام منزل حسن كان الخوف هو الأمر الوحيد الذي لم يشعر به حسن، وإنما اختلجت في نفسه مشاعر أخرى هي مزيج من الفرح والاعتزاز وما شابه ذلك من الأحاسيس الإيجابية، فسيارة الحكومة تتوقف أمام منزله للمرة الأولى، وعندما خرج لاستقبال الدورية حدث نفسه قائلا: ( تمسيح الجوخ جاب نتيجة) منوها إلى إطنابه في مديح الحزب الشيوعي، وتوقع في دخيلته أنه من غير المستبعد أن يزوره النائب في البرلمان قريبا كما زار ابن عمه سعيد من قبله.
أدرك عناصر الدورية من الاستقبال الحميم الذي قابلهم به حسن أنه ليس للشيوعية رائحة في منزله، وتناسوا أمر التقارير وقرروا عدم إجراء تحقيق في الأمر بتاتا، غير أن أحدهم قال ساخرا وهو يعيد فنجان القهوة المرة الذي احتساه:
– شو يا حسن ؟ سمعنا أنك صرت شيوعيا؟!!!!
فرد حسن متحسرا حسرة من يحلم بنيل شرف لا يستحقه:
-أنا لا والله، لكن سعيد ابن عمي مسؤول كبير في الحزب الشيوعي، سعادة النائب كان لا يغيب ذيله من بيت سعيد حتى يطل رأسه ، سعيد مرجعية يشاورونه في كل صغيرة وكبيرة في الحزب، كل الاجتماعات تجري في بيته لا يعصى عليه سؤال، يمكنه الإجابة على كل شيء، رجل مطلع ويفهم.
لقد أطنب حسن في الإطراء فلعلهم يسألون عن سعيد لكي يستلم منصبا كبيرا، محافظ مثلا.
كان هذا الإطناب بطبيعة الحال كافيا لاعتقال حسن وسعيد معا، وما هي إلا ساعة من الزمن حتى كان الاثنان يتعرضان للتحقيق في الشعبة الثانية.
عندما سأله المحقق إن كان شيوعيا غص سعيد برشفة القهوة التي كان قد رشفها من الفنجان الذي قدموه له في الشعبة الثانية، حيث دخلت القهوة في شعبه الهوائية وسعل سعالا شديدا واحمرت عيناه ولم يكن قادرا على الإجابة، مما دفع ابن عمه حسن للإجابة مؤكدا عضوية سعيد في الحزب مثبتا ذلك بالزيارة التي قام بها نائب البرلمان لمنزله قبل عام، مما اضطر سعيد لكبت سعاله وتمالك نفسه لينفي كل ما قاله حسن ثم يتابع سعاله الحاد، غير أن حسنا ظن الدافع لهذا الإنكار تواضع سعيد الذي يضيع كل الفرص بسببه وأخذ على عاتقه وضع ابن عمه سعيد في مكانه الطبيعي وأكد من جديد أنه شيوعي، ولم تنفع جميع تأكيدات سعيد بعد ذلك في أنه غير شيوعي.
دب الهلع في القرية بعد اعتقال سعيد وحسن، وصار كل من قال لهما مرحبا أو زار أحدهما يحسب ألف حساب وحساب، أما في بيت حسن فقد تجمع الأقارب يواسون بعضهم بعضا وينتظرون خبرا مطمئنا عن مصير الشخصين المعتقلين، وفي المساء عاد حسن لوحده فأخذ الجميع يسألونه عن سعيد الذي لم يعد فأجاب بقرف:
– سعيد ابن عمي حمار.
استغرب الجميع ذلك وسأله أحدهم بلهفة :
– ما الذي جرى.
فكرر حسن نفس المقولة بطريقة أخرى باستياء وقرف أيضا:
– كل شئ كنت أتوقعه إلا هذا الأمر، كنت أظنه يفهم ولكن تبين أنه حمار
– ما الذي حصل؟
كرر أحدهم متلهفا لمعرفة أخبار سعيد التي اتخذت طابع التشويق بفعل لهجة حسن الذي عاد وأكد:
– ما كنت أتوقع أبدا أنه حمار لهذه الدرجة.
قفز أحدهم وأمسك بخناق حسن وقد فقد صبره :
– قل ما الذي حصل قبل أن أشرب من دمك، العمى.
أبعد حسن يدي الشخص بدون اكتراث :
- الآن عندما أقول لك ما الذي حدث، ستشرب من دم سعيد، الحمار، وليس من دمي .
- يا أخي فهمنا، يكفي، قل ما الذي حصل وخلصنا.
- الذي حصل، أن الجماعة أخذونا، وبكل احترام دخلونا لعند رئيس الشعبة، وضيفونا قهوة ومن أفضل ما يكون، نقيب يا جماعة نقيب سقانا قهوة، نقيب مش عريف ولا عسكري.
- المهم ،المهم. استعجله أحدهم فأردف:
- رئيس الشعبة سأل سعيد أنت شيوعي؟ سعيد قال لا، يا بني آدم أتخجل من ذلك، قالوا له وصلتنا معلومات أنك شيوعي فأنكر وقال أن الذي أوصل هذه المعلومات كذاب فلم أتحمل نفسي وقلت له أنت الكذاب كل أهل البلد يعرفون أنك شيوعي، لماذا تخجل؟
– المهم، المهم .
قال أحدهم مستعجلا إياه فقال:
– المهم سعيد الحمار وضع رأسه بالحائط ولم يعترف، فأعطوا لكل واحد منا ورقة كُتب عليها شيء ما وقالوا وقعوا، أنا أمي لا أقرأ ولا أكتب ، بصمت، سعيد الحمار رفض التوقيع، وقع يا بني آدم ( شو توقيع وزير الدفاع؟!!!!).
– المهم، المهم.
كرر أحدهم مستعجلا.
- المهم- قال حسن متنهدا- يجب أن نبحث عن شخص يدخلنا إلى الحزب الشيوعي، فكل شخص ينكر أنه شيوعي يضعونه في السجن ، كما حصل مع سعيد، الحمار.
ثم أقفل حديثه( لأ خيو منصير مو بس شيوعيين، قرود منصير المهم ماحدا يقرب صوبنا).
الأكثر شعبية

سوريا في العقل الأمريكي.. دولة تُدار كي لا تُحسم



