د . حمزة كترنجي – الناس نيوز ::
اختلطت المشاعر في قلبي كما تختلط أجواء مدينة ملبورن في يوم ربيعي متقلب، خوف وترقب، حماس وحزن، فرح وشوق في آنٍ واحد.
لم أصدق عينيّ وأنا أشاهد على شاشة التلفزيون رفع راية الثورة السورية والخلاص من الطاغية بشار الأسد ، الاحتفالات زينت ساحة الأمويين في قلب دمشق العظيمة .
كان المشهد كحلم طال انتظاره ، لأول مرة، شعرت أن الجدران فقدت قدرتها على التنصت واستراق السمع، وأن الخوف الذي خيم على أرواحنا ، نحن السوريين لعقود قد رحل بلا عودة.
مرت أيام الأسبوع الفائت كأنها لحظة ، كان هاتفي لا يتوقف عن الطنين، والرسائل تتوالى من الأهل والأصدقاء و خريطة سوريا ومدنها وقراها والطرق التي بينها هي ما يظهر على كل شاشاتي.
أدركت كم أشتاق إلى كل زاوية في تلك البلاد إلى كل مدينة وقرية ، اشتقت إلى مدينتي حماة، وإلى ذكريات طفولتي التي رسمها والدي “رحمه الله” وعائلتي هناك.
كان والدي يرى سوريا بأكملها لوحة فنية مليئة بالجمال رغم الجراح، وكان دائم التفاؤل بأن القلوب ستتصافى يوماً، وأن الحرب ستلقي بأثقالها وتبقى سوريا لنا “الشام شامنا يا ابني”.
كان أبي، رحمه الله، رجلاً عاشقاً لوطنه، لا يرى في الأرض بقعة أجمل من سوريا ولا في أهلها ، إلا طيبة القلب ونقاء الروح.
السوريون هكذا اغلبهم يعشق سورية وهي تبدو كالأم الحنونة مع الجميع.
خدم أبي في مؤسسة الإنشاءات العسكرية في منتصف السبعينيات وكان مهندساً يجوب قرى سهل الغاب في حماة ضمن ما كان يسمى بالمشاريع الكبرى في وقته، تلك البقاع التي كانت بالنسبة له كنزاً من الجمال الطبيعي والبشري.
كان يحكي لنا عن أهل الغاب الطيبين، عن كرمهم الذي يشبه غنى أراضيهم، وعن بساطة حياتهم التي كانت تُشبه ما يزرعونه من قمح وزيتون.
كان يحدثني عن مدينته حماة و شوارعها وأزقتها ومساجدها ومباريات كرة السلة في نادي “أمية” الذي كان يلعب له.
كان يعشق اسماء النواعير التي تُغني على شاطئ العاصي وعددها واماكنها، و عن حارات حماة القديمة المليئة بالحكايات. لم يكن أبي يرى حماة مدينة واحدة، بل قلب سوريا الذي ينبض حباً وتاريخاً.
حكايات أبي كانت دائماً تتردد في ذهني وأنا أستمع إلى نشيد موطني:
“الحياة والنجاة والهناء والرجاء… في هواك”
اليوم، أجد نفسي أردد هذه الكلمات، وأنا أسترجع حكاياته وأرى سوريا تقوم من تحت الرماد ، رحل أبي قبل أن يرى حلمه يتحقق.
“هل أراك .. هل أراك؟
سالما منعما و غانما مكرما”
في وسط كل هذه المشاعر المضطربة والخوف من المستقبل، وجدت نفسي محاصراً بين ذكريات الماضي وأحلام الغد.
الخوف من المجهول كان يتسرب إلى داخلي، كما لو أن الظلام الذي عشناه لعقود يرفض أن يغادرنا بسهولة. كيف يمكن أن نعيد بناء وطن مزقته الحرب؟ كيف يمكن أن نصلح الجراح التي حفرتها سنوات الألم؟
“الشباب لن يكل همه ان يستقل او يبيد..”
لم أشعر بكل هذه الأفكار إلا بيد ابنتي الطفلة ذات السنوات الست، تمسح دموعي المنهمرة بمنديل صغير. لم تفهم لماذا كنت أبكي، لكنها أحست بحزني بطريقة عجيبة، تلك الحساسية النقية التي لا يمتلكها إلا الأطفال. نظرت إلي بعينيها البريئتين وقالت بصوتها الطفولي:
“لا تحزن يا بابا، ستكون سوريا بخير.”
كانت كلماتها البسيطة كفيلة بأن تيقظني. في لحظة، شعرت أن كل ما قلته وفكرت فيه صار صغيراً أمام هذه الجملة الصادقة. كيف لهذا الملاك الصغير أن يرى الأمل في وسط كل هذا الظلام؟ كيف استطاعت أن تمنحني شجاعة لم أكن أعلم أنني أحتاجها؟
“الحسام و اليراع لا الكلام و النزاع رمزنا.. رمزنا”
كانت يد ابنتي الصغيرة وهي تمسح دموعي تذكرني بأن المستقبل ليس لي وحدي، بل لأطفالنا الذين لم يعرفوا هذا الوطن إلا من خلال قصصنا. أدركت أن الأمل الذي كان يحمله والدي، والذي ظل حياً في داخلي، يجب أن ينمو ليصبح واقعاً من أجلهم.
سوريا الجديدة تحتاج الى عقلية مختلفة تترفع عن نزاعات الماضي وتنفض غبار العهد البائس الذي انتهينا اليه بسبب الخوف والقمع والشك وغياب الوعي.
“مجدنا و عهدنا وواجب الى الوفاء .. يهزنا يهزنا”
أن نبني سوريا الجديدة يعني أن نؤمن بأنها تستحق الدماء و التضحيات والآلام وأن نؤمن بأن الشام شامنا جميعا دون اقصاء و أن المستقبل لمن يزرع و يعمل بصدق و امانه دون ان يخشى من قول الحق و ان يكون صادقا مع نفسه، نحتاج الكثير من الانتخابات، و الكثير من الاراء تناقش في برلمان يمثل الشعب و دستور جديد قديم يبني على ما قدمه جيل الاستقلال من عظماء مثل شكري بك القوتلي و فارس بك الخوري وسلطان باشا الأطرش و الشيخ صالح العلي و غيرهم ممن عرف قدر سوريا و آمن بها.
الخوف من المستقبل لن يزول بسهولة، لكنه يمكن أن يُهزم بالعمل المشترك وبالإيمان بقدرة جميع السوريين على النهوض. نعم، قد تكون الطريق طويلة، وقد تكون مليئة بالتحديات، لكن الأمل هو البوصلة التي ستقودنا نحو سوريا التي نستحقها جميعاً.
نظرت الى ابنتي واحتضنتها، وشعرت أنني أريد أن أحكي لها عن كل شيء. أردت أن أخبرها عن سوريا التي لا تعرفها، عن جمال النواعير في حماة. أردت أن أحدثها عن ادلب الثورة و عن حوران و شجاعة اهلها، وعن الساروت الحارس الذي هجم فريقه وفاز ، وعن كل اهل حمص الرائعين وخلافنا الفكاهي معهم على حلاوة الجبن، وعن كل حكايات سوريا الجميلة التي عرفتها و سمعتها من ابي ومن غيره عبر حياتي.
لكنني أمسكت نفسي، واكتفيت بقول:
“سوريا ستكون بخير، يا صغيرتي، لأننا سنبنيها مرة أخرى”
“غاية تشرف و راية ترفرف .. يا هناه في علاه.. قاهرا عداه”
سوريا لن تكون بخير فقط لأنها وطن جميل، بل لأنها وطن يملؤه هؤلاء الذين لم يفقدوا الإيمان بها، حتى في أصعب لحظاتها.
مسحت دموعي وعدت أنظر إلى شاشة التلفاز حيث ما زالت موسيقى “موطني” تعزف، وشعرت أن الأمل الذي حمله أبي والذي أراه الآن في عيني ابنتي، هو الأمانة التي يجب أن نحملها للمستقبل.
رحم الله شهداء سوريا الأبرار .. عاشت سوريا حرة
موطني موطني … .
ملبورن
9 ديسمبر 2024