[jnews_post_author ]
بين ايديكم مجموعة مبعثرة من ذكريات حلبية عشتها بين سنة 2000 وسنة 2006، فيها الكثير من الحقيقة والبعض من الخيال. من ترد أسماؤهم فيها هم شخصيات حقيقية ومن لا ترد أسماؤهم فيها هم اشخاص حقيقيون. ليست ذكريات حميمية خاصة بل فيها ما يعني العموم لأنها مرتبطة بأحداث وهموم تشارك فيها أهل المدينة خصوصاً وأهل المنطقة عموماً في حقبة زمنية محددة.
*****
احتفلت فرنسا في الرابع عشر من الشهر الجاري بعيد الثورة الفرنسية الذي تعتبره الدولة كما الشعب عيداً وطنياً يجري الاحتفال به رسمياً وشعبياً بشكل كبير كل عام، حيث تقام الحفلات الراقصة في ثكنات رجال الإطفاء والألعاب النارية في مختلف ساحات المدن والقرى، أشهرها تلك التي تطلق في سماء باريس وتحديداً في منطقة برج إيفل مصحوبة بالموسيقا وببرمجة ضوئية. كما يجري استعراض عسكري كبير في جادة الشانزيليزيه يحضره كبار قادة العالم الصديق مع فرنسا، ومنهم بعض دكتاتوريي أفريقيا وآسيا، حيث لم تغب بعد صورة بشار الأسد في منصة المدعوين الرسميين سنة 2008. إلا أن جائحة الكورونا منعت هذه السنة من إجراء الاحتفالات التقليدية وتم الاكتفاء باستعراض صغير تم من خلاله تكريم الطواقم الطبية والعاملين في المجال الصحي على تضحياتهم خلال الفترة القريبة الماضية.
وقد أعادتني هذه الذكرى إلى الاحتفال الذي كانت تقيمه القنصلية الفرنسية في حلب بهذه المناسبة ويدعى إليه جمع غفير من أصدقاء القنصلية إلى جانب الحق المكتسب لكل مواطن فرنسي في المدينة أن يحضره حتى لو لم توجه الدعوة إليه. ومنذ مشاركتي في إطلاق المكتب الثقافي الفرنسي في المدينة واستمرار عملي من خلال تأسيس المعهد الفرنسي للدراسات العربية، سمحت لي الظروف العملية بأن أكون مدعواً إلى هذا الحفل لسنوات طوال. وكانت مناسبة ثرية للباحث مثلي في “مراقبة” الظواهر الاجتماعية وهيكلية العلاقات الإنسانية التي كانت هذه الاستقبالات تجسيداً حياً لها. وكان للمهتمين بعلم الأنثروبولوجيا، وأنا كنت وما أزال مهتماً بهذه العلوم دون التبحر فيها، أن يعوموا في بحر من الملاحظات المكتسبة من خلال هذه الفرصة، خصوصاً، بعد قراءة كتاب هام صدر سنة 1928 إبان الانتداب الفرنسي على سوريا ولبنان تحت عنوان “ذاهبون الى سوريا”. في هذا الكتاب الصغير، وصف دقيق وممتع قام به الضابط الفرنسي بيير لامازيير لمجريات رحلة بحرية ضمت المفوض السامي المعين حديثاً في المشرق إلى جانب “عليّة” القوم من تجار وأعيان دمشق وبيروت وحلب، الذين كانوا يسعون إلى “طبخه” واكتساب صداقته حتى قبل وصوله الى موقعه الوظيفي. كل ما ورد من توصيفات ومن تفاصيل تعبيرية في هذا الكتاب يتكرر بشكل شبه دائم في تعامل المستفيدين مع المسؤولين محليين كانوا أو منتدبين.
لقد كان من الممتع لي متابعة ارتفاع حرارة الاتصالات الهاتفية في الأسابيع القليلة التي تسبق هذا الاحتفال. كما كان من المعتاد ازدياد الزيارات الودية التي كان يسعى أصحابها إلى أن يرد اسمهم في قائمة المدعوين. وقد كان هذا التوجه محكوماً بعوامل عدة أهمها “البرستيج” الاجتماعي حيث يكون الاحتفال حدثاً يتغنى به مدعووه وتبدأ المماحكات الاجتماعية الساخرة ممن لم يكن قد حظي بهذه الدعوة. كما تسمح هذه الدعوة للبعض الساعين إلى تسيير أعمالهم، إلى عقد لقاءات جانبية على هامش الطعام والشراب والموسيقى. وكان السؤال الدارج لدى بعض المكونات الاجتماعية من مختلف الملل والطوائف هو التالي: “لم أشاهدك في حفلة 14 تموز” مع ابتسامة صفراء سرعان ما تتبدد حينما يكون الجواب بالإقناع العكسي، أو تتعزّز حينما يؤكد من تم سؤاله على غيابه عنها. ومنهم حتى سيخترع الحجج بداعي السفر أو المرض، ولن يتطرق البتة إلى عدم تحصّله على الدعوة الماسية للحضور من “صديقه” القنصل.
وكما هو معروف، ففرنسا لا تمنع الخمور، ويُعتبر النبيذ شرابا وطنيا من غير الجائز أن يغيب عن العيد الوطني، لذلك يقوم رجال الدين الإسلامي بالحضور باكراً قبل البدء بتقديم النبيذ ومستلزماته. وأما رجال الدين المسيحي فلا شيء يمنعهم من الاستمرار بالتواجد ولو حضروا مبكرين برفقة “أحبابهم” الشيوخ في ظل التعايش الشكلي الكاذب الذي كان مفروضاً من القمة.
على الرغم من طبيعة الحفل الذي يحضره كل مسؤول في المدينة من أعلاهم نظرياً، وهو المحافظ، إلى أكثرهم إخافة أمنياً من أصحاب الرتب المنقسمين بين عدة فروع، إلا أن هذا لا يمنع عناصر الأمن من الرتب الضئيلة بأن يمارسوا عملهم بكل “ضمير” والتزام. فهم يجولون بين المدعوين حاملين دفتراً صغيراً وقلما أصغر منه، ليسجلوا من تكلم مع من، ومن حضر ممن يجب مراقبتهم في شهيقهم وفي زفيرهم. وأحياناً، ينخرطون في حديث يجري بين مجموعة من الأصدقاء الحقيقيين أو المنافقين، حيث يعرف الجميع طبيعة الشخص المنخرط، وهو يحافظ على ابتسامة بليدة، يضيف اليها أسئلة أشد بلادة، مؤدياً دوره في تحطيم حلقة الحوار، حيث إن القاعدة في العقيدة الأمنية السورية هي أن لا يجتمع اثنان ليس ثالثهما مخبر. ويحلو لهذا العنصر “الدرويش” أن يقترب ممن كان منفرداً سائلاً عن أشخاص بعينهم من الحضور. حتى أنه يمكن أن يسأل أحد الحضور عمن يتكلم إلى رئيس فرع أمني منافس، وبذلك يتم له تسجيل سبق أمني سيكافأ عليه إن هو قال لمعلمه بأن المعلم الآخر كان في حديث جانبي مع هذا الصناعي أو ذاك التاجر.
في حفل لن أنساه، كان السفير الفرنسي موجوداً، وهذا استثناء، لأنه منوط به الاحتفال بالعيد في دمشق. وهذ السفير كان مستعرباً إلى حد التبحر بلغة الضاد، وخبيراً بشؤون الشرق لحلوله في مواقع مفتاحية عدة من طهران الى القاهرة مروراً بأنقرة. فتقدم منه محافظ المدينة مرحباً. فالتفت باتجاهي يدعوني للوقوف الى جانبه للترجمة. وقبل أن أبدى استغرابي لمعرفتي بضلوعه باللغة العربية، فهمت اللعبة الدبلوماسية التي سعى اليها، لأن المحافظ سرعان ما قال التالي: “إن ثورة البعث تعتبر نفسها الابنة الشرعية للثورة الفرنسية”.
ساد صمت الموتى إثر إلقاء المحافظ لهذه القنبلة. ونظر السفير باتجاهي بطريقة تحمل من الرجاء ما يبعث على الشفقة، وقال لي: “ترجم لي أرجوك، وخذ من الوقت ما يسمح لي بأن أجد جواباً لهذا الهراء”. فبدأت في معلقةٍ من الجمل الفارغة من المعنى ولكن المحافظ لم يكن يحمل من الملكات الذهنية ما يسمح له بأن يوقفني مدعياً عدم الفهم. وبعد لحظات قاتلة مرّت على السفير، نهرني المحافظ بتهذيب متسائلاً عن سر طول الترجمة لجملة قصيرة للغاية. فمارست أيضا من جهتي دبلوماسية نادرة، قائلاً له بأن حمولة عبارته لا يمكن أن تكفيها بعض الكلمات لشرحها، مما يفرض التوسع في استنباط الرموز، فابتسم ابتسامة ملؤها الفخر. وبدا أنه رضي بهذا التفسير مكتفياً بابتسامة السفير الصامتة التي كان ملؤها الإحراج، والتفت إلى أهم بنود الزيارة وهو لهط ما توفر من لذيذ الطعام. أما السفير فإخاله يفكر حتى اليوم بجوابٍ مناسب.