غادة بوشحيط – الناس نيوز ::
عرف الكاتب الأمريكو-بريطاني من أصل هندي “سلمان رشدي” أول نجاحاته سنة1981، بحصول روايته “أبناء منتصف الليل” على جائزة “بوكر”، المقابل البريطاني لل”غنكور” الفرنسية. منذ صدرت في حقه فتوى “آية الله الخميني” بهدر دمه سنة 1989، أفلت من ست محاولات اغتيال.
وقع في أغسطس/ أوت 2022 ضحية لاعتداء بالسكين على منصة مهرجان أدبي في نيويورك. نجا من موت محقق بعد تلقيه خمسة عشرة ضربة، مستعيد جل عافيته. في كتابه الأخير “سكين” الذي صدر شهر أبريل 2024، يروي قصة معجزة تشافيه، وحب المحيطين به.
كيف تتوقع نهايتك؟
لقد حظيت بالتفكير بالأمر مليا مؤخرا…لطالما تصورت الموت نهاية، لا أتصوره انتقالا نحو واقع آخر. عندما وقفت على شفيره، لم أرى نفقا أبيض، لا ألسنة نار، ولا شيء من كل هذا. لا شيء ساحر في الأمر. الموت إحساس جد مادي. الكتاب على عكس الرياضيين والراقصين ليسوا دائما في حوار مع أبدانهم. لم يسبق لي أن أحسست بوجودي المادي كما فعلت حين شارفت على نهايتي. كانت أناي على شفير الموت، تمام كالجسد الذي يحملها.
هل جعلتك مجاورة الموت هذه أكثر جهوزية له؟ أكثر معرفة به؟
لست أعلم إن صرت أعرفه بشكل أفضل، لكن المؤكد أني فكرت به أكثر مما يفعل آخرون. تآلفت مع الفكرة. الموت مفاجأة بالنسبة لكثير من الناس، حتى لو اقتنعنا جميعا بحتميته، لكننا نتوقع خلودنا. حدوثه صادم. لن يكون كذلك بالنسبة لي، تآلفت معه. لكن أتمنى أن أموت بهدوء خلال نومي.
هل يفاجئك التقدم بالسن؟
نعم. سأحتفل في يونيو/ جوان القادم بربيعي السابع والسبعون، سن والدي حين توفي. إنه أمر صادم. ببلوغ هذا السن نبدأ في التساؤل حول ما تبقى من الوقت. أخطط لأفعل ما بوسعي حتى يتبقى الكثير منه.
استعدت كثيرا من وظائف جسدك بعد الاعتداء، توقعت استحالة استعادتها. ما الذي علمتك هذه التجربة؟
شفيت أغلب الإصابات الخمسة عشر، إلا البالغة منها، الجسم البشري معجزة حقيقية. لا دخل لي بالأمر، حدث كل ذلك لوحده، بمساعدة العلوم الطبية، لكنني وجدت في امتلاك جهاز مميز، يتعافى ذاتيا أمرا مدهشا. لقد حظيت بفرصة ثانية، بحياة استدراكية.
على النقيض، صرت أقل هشاشة؟
لنقل أني وعيت بصعوبة قتل أحدهم.
كتبت أنه من الجنون الندم على ما نفعله بحياتنا، لأن هذه الحياة هي من تصنعنا. هل يعني ذلك أنك لا تندم على شيء؟
يندم جميعنا على بعض الأمور. أندم على علاقات لم تنجح، جعلتني حزينا. ولكن عموما، كل شيء على ما يرام. إنها الحياة التي حظيت بها، سعيد لأني عشتها، أجبرت نفسي على عيشها بأحسن ما يمكن. من الأفضل تقبل الحياة التي حظينا بها، لأننا لا نمتلك خيارا.
تعتقد أنك استوعبت الدروس التي يمكنك نقلها لأبنائك؟
نعم: احذروا.
ما الذي تريد قوله تحديدا؟
حذاري، إنها أخطر مما تتصورون. تحدث بعض الأمور فجأة. يأتي بعض الضرب من الخلف، تماما عكس ما نتوقع. ينطبق الأمر على الأشياء الجيدة أيضا. إحدى مزايا الحب أنه يأتي عكس انتظاراتنا. دائما ما يأتي من الخلف. تكرر الأمر معي طيلة حياتي. الحب مفاجأة دائما. حين قابلت “إليزا” (راشيل إليزا غريفيتز” خامس زوجاته، قابلها سنة 2017) لم أكن أبحث عن الحب. أظنه أمرا ينطبق على الجميع: لا تبحث، أترك الآخر يجدك.
تحب بشكل مختلف اليوم؟
نعم. الحب في سن متأخرة مختلف تماما. بدءا لأننا نملك ما يكفي من خبرة عما قد يسبب الازعاج. نصبح أكثر حذرا في التعاطي مع الأمور. أعتبر أن عيش هكذا تجربة، مع قليل من الحظ، هدية حقيقية. زواجي بإليزا هو الخامس. ليس بالرقم القياسي المميز. لكن أظنني وجدت أخيرا الشخص المناسب.
تتطور طريقتنا في الحب مع كل مرة؟
الحياة طويلة، اليوم لست الشخص الذي كنته بسن ال32، حين تزوجت لأول مرة. بعض الزيجات تجعل منا أفظع نسخنا، ولكن ليس الأمر بالتجربة الخطية.
تحس بأنك أضعت الوقت؟
سبق أن أحسست بذلك. توجب علي أن أعيش محاطا بحراسة مكثفة، حين بدأت المشاكل في الظهور بعد صدور “آيات شيطانية” (روايته، أصل الفتوى التي أهدرت دمه سنة 1989). أضعت الكثير من الوقت لأنني لم أتمكن من العيش كشخص عادي. لم يتم ابني سنته العاشرة حينها. لم يكن بمقدوري مرافقته للعب الكرة بالمنتزه. أحسست أني جانبت الكثير من الأوقات الثمينة فيما لحق، حتى مع ابني الثاني الذي ولد سنة 1999، وهو أمر هام جدا. عشت سنوات تحت ضغط كبير، أحسست أنني أضعت معها كتبا كاملة. لا أعلم ما كانت لتكونه تلك الكتب، ولكني أضعت بضعها.
حضرتك ملحد. هل تنازلت عن بعض القناعات بمرور السنوات؟
كنت أكثر التزاما سياسيا حين كنت شابا. أنا من جيل المظاهرات المناهضة لحرب فييتنام. كنت بسن 21 سنة 1968. وهي السنة التي وقعت فيها أحداث باريس طبعا. كنت سأخوض امتحانات التخرج من كامبريدج وقتها. وجدتني مجبرا على المفاضلة بين تحصيل الشهادة أو الذهاب إلى باريس للالتحاق بالمظاهرات. بعد تفكير ملي وواقعي اخترت اجتياز امتحاناتي.
هل كنت لتكون أكثر اعتزاز لو قمت بالنقيض؟
لدي من الأصدقاء من فعلها. تخلوا عن شهاداتهم وذهبوا إلى باريس. نعم، أظنني كنت لأكون أكثر فخرا لو قمت بذلك عوض الجلوس داخل قاعة للرد على أسئلة حول التاريخ القديم.
هل يميل إيقاع الحياة أكثر نحو اليمين؟
نكون مثالين بسن الشباب، هذا ما يتكرر قوله دائما. لطاما اعتبرتني من اليسار. ولكن بمر الزمن، صار التفريق التقليدي بين اليمين واليسار مختلفا. لا أحبذ الكثير من الأمور في اليسار الحالي على الإطلاق. صعود المقبول السياسي، التزمت الذي يملي الطريقة التي يجب التكلم بها، ما يمكن وكيف يمكن وما لا يمكن قوله.
اليوم في أمريكا، يعاني شباب الكتاب من الخوف. يتساءلون حول المباح كتابته. هل يمكن لكاتب أبيض أن يرسم شخصية سوداء؟ هل يمكن لكاتب غير مثلي أن يكتب منطلقا من وجهة نظر مثلية؟ الجواب نعم أكيد. لأن فن الأدب سيموت لو التزمنا بالكتابة عن أنفسنا فقط. في روايتي “بيت غولدن” يعيش أحد الشخوص الرئيسية حالة انتقالية لنقل. فكرت أني سأهاجم بسببه لكن ذلك لم يحدث. يوجد تفسيران بالنسبة لي، الأول ألا أحد قد قرأ الكتاب، أما الثاني فربما نجحت في فعل الأمر.
ألا تظن أن هناك من يرى أنك عشت كفايتك من الفضائح؟ من يمكنه أن يهاجم سلمان رشدي حول ما يكتب وما لا يفعل؟
لا، لا. أحد أهم الدروس التي تعلمتها أن الناس ليسوا بذلك اللطف. لكل شخص همومه، لا أحد سيتعاطف مع حيوات الآخرين. كان كثر ليسروا بانتقادي. حين نصبح مادة للكراهية، سيكون هناك دائما أشخاص ليفعلوا.
في كتابك الأخير خصصت صفحات مؤثرة جدا حول نهاية “مارتن أميس”، الذي رحل سنة 2023، وحول مرض “بول أوستر” الذي توفي أيضا. ما الذي سيختفي برحيل هذا الجيل من الكتاب؟
أتمنى أن يكون هناك جيل آخر. في أمريكا، الأدب الأفرو-أمريكي الحالي يمر بفترة مذهلة. مع كتاب ك”كولسن وايتهيد”، “جيسمين وارد”، “جيمس ماكبرايد”. بيعت مليون نسخة من كتاب “ماكبرايد” الأخير “متجر السماء والأرض” (صدر سنة 2023). لطالما شكل “أدب الهجرة” وجه الأدب الأمريكي. تاريخيا، لطالما تعلق الأمر بهجرة يهودية، قادمة من أوروبا الشرقية، أو أوروبا الجنوبية، هجرة إيطالية غالبا، وبعدها اسبانية. اليوم يوجد أمريكيون من أصول فييتنامية، يابانية، إفريقية وهندية،…وهو أمر مفيد جدا. أجدني أستلهم جيلا أصغر مني. هو أمر غريب، عادة نستلهم من سبقونا. لا سوء في أن يتجه جيلي نحو بوابة الخروج.
من من الكتاب ساعدك على التفكير في مسألة الموت؟
أذكر أنه طلب مني بسن الخامسة عشر قراءة “كانديد” في درس اللغة الفرنسية، الأمر الذي فعلته، ثم لم تبرحني تلك الرواية أبدا. كان “فولتير” أول كاتب أثر فيا عميقا. ولطالما كان التفاؤل موضوعا مهما بالنسبة لي. إنه نقطة قوتي، أو ضعفي. اقترحت في رواية “أبناء منتصف الليل” أن التفاؤل مرض، غير قابل للعلاج.
أفكر أيضا برواية “مئة عام من العزلة” لغارسيا ماركيز. هناك حدث مهم، حين تصعد شخصية “ريميديوس” الجميلة نحو السماء، يحملها الريح، لأنها أجمل من تعيش في هذا العالم. كل النسوة اللاتي كن تنشرن الغسيل أخذن ترددن: “إنها أفضل من أن تعيش في هذا العالم.” وهي ترتقي نحو السماء. لطالما فكرت في أنها طريقة جميلة للرحيل.
أعلن استقلال الهند يوم 15 أغسطس/أوت 1947، ثماني أسابيع بعد مولدك، في بومباي. كان أبوك يمزح مرددا أنك طردت الإنجليز. ما الذي تريد أن يحدث ثماني أسابيع بعد موتك؟
أريد فقط، وبكل أنانية، أن يقرأ الناس كتبي. ربطتني صداقة مميزة بالكاتبة الإنجليزية الرائعة “أنجيلا كارتر” (1940-1992)، التي همش النقد طويلا أعمالها. صارت روايتها الأخيرة ” ماكر من يعرف والده” الأكثر مبيعا، مباشرة بعد موتها، ثم الأكثر تدارسا في الجامعات الإنجليزية. كانت لتفرح برؤية كل ذلك. لم يحدث ذلك وهي على قيد الحياة. يبدو الموت خيارا مهنيا رائعا.
هل تفكر فيما سيتبقى منك بعد رحيلك؟
أريد أن أتصور أحدهم يقرأ كتبي بعد مئة عام. إذا حدث ذلك، لن أكون هنا حتى أسعد بالأمر لكن شبحي سيفعل. أنا هنا منذ زمن طويل. عمر رواية “أبناء منتصف الليل” 43 سنة، بدأت كتابتها منذ 48 سنة، ولا يزال الناس يقرؤونها. ربما سيدوم الأمر أكثر، كذلك بالنسبة لباقي كتبي. ما أريده أن يحدث ثماني أسابيع بعد موتي هو أن يهتم الناس من جديد بكل كتبي.
جمعت الأقوال: فالنتين فور.
عربت الحوار: غادة بوشحيط.
يومية “لوموند” الفرنسية. عدد يوم 19/05/2024.