د . أحمد برقاوي – الناس نيوز ::
– وقائع الحياة اليومية –
– كييف 6 –
الرحلة إلى مغاور القديسين:
كنتُ قد تحدثت عن كنائس كييف القديمة التي تقع على التلال وهي تستقبلك بحلتها الذهبية وأنت قادم في القطار من موسكو. في تلك الفترة من حياتنا في كييف لا يمكن معرفة علاقة أهل المدينة بالمسيحية، وبخاصة أن الإلحاد هو التوجه الرسمي للدولة السوفيتية، وبالتالي لا يمكن أن تلحظ أثراً للطقوس الدينية المسيحية في الآحاد، أو في الأعياد المسيحية، بل إن الكنائس ذات المكانة المعمارية تحولت إلى متاحف للزيارة، أما المتاحف الحديثة فاستخدمت لأغراض عملية أخرى. وترك القليل القليل منها صالحاً لطقوس نادرة.
من الطريف بالأمر أن الإلحاد في الاتحاد السوفيتي أيديولوجيا دينية حاكمة. وهو يُدرس في المدارس وكلية الفلسفة. وهناك قسم خاص في كلية الفلسفة هو الإلحاد العلمي. ومصطلح الإلحاد العلمي شبيه بمصطلح الشيوعية العلمية. فالإلحاد الشيوعي الماركسي اللينيني هو الإلحاد العلمي. وهو الإلحاد الذي يستند في دعواه على المادية الجدلية عموماً ومبدأ المادة أسبق على الوعي. وبالمناسبة فإنه بعد سبعين عاماً من قيام دولة ذات أيديولوجيا ملحدة تبين أن نسبة الإلحاد في الدول الأوربية التي لم تطرح الإلحاد أيديولوجيا أكثر بكثير من نسبته في أوكرانيا وروسيا.
قمنا برحلة إلى كنيسة المغارة التي تعتبر جزءاً من الرحلات التي تقيمها عمادة الأجانب للطلبة الغرباء. حيث يعود تاريخ هذا المكان إلى عام1152، الذي أسسه أحد الرهبان. وفيه مدافن لعشرات الرهبان المحافظين على وجوههم من التلف، بسبب عمق المغاور المدفونين فيها.
فبينما نحن نتجول داخل الكنيسة مستمتعين بهذا الأثر الجميل، الذي يضم رفات عدد كبير من البطاركة، ومستمعين بإصغاء إلى شرح الدليلة السياحية، تقدمت مني ومن صديقي امرأة عجوز وسألتنا: من أين أنتم يا أبنائي؟ من سوريا أجبنا. اسمعا ما أقوله لكم: لا تصدقوا ما تقوله لكم هذه الدليلة السياحية، إنها شيوعية ملحدة، وتكره ديننا المسيحي. وأدارت ظهرها واختفت عن الأنظار بسرعة.
احتفال الطلبة الفيتناميين بالانتصار:
الطلبة الفيتناميون في مدينتا الجامعية قليلو العدد جداً، وهم غالباً أشخاص انعزاليون، لا يقيمون أية علاقات صداقة مع غيرهم، بل ولا يحيون أحداً. وجوههم غالباً شاحبة، وحياتهم محصورة بين الجامعة والبيت. لا نلتقي بهم عادة إلا في المطبخ.
وإذا علمت أيها القارئ العزيز بأن الدولة الفيتنامية كانت ترسل ثلاثة طلاب بمنحة طالبين، وأن منحة الطالب الفيتنامي 70روبلاً، فهذا يعني أن دخل الطالب الفيتنامي شهرياً هو ما يقرب من 46 روبلاً. ولهذا فهم يأكلون بمقدار، ويلبسون أرخص اللباس الروسي.
لن ننسى حادثة طريفة مع الطالب المصري عقل، حين شاهد في الممر فتاة فيتنامية في طريقها إلى المطبخ تداعب دجاجة جاهزة للطبخ، وهي ترطن بلغتها فرحانة. فرغب أن يمازحها، فما كان منها إلا أن ضربته بالدجاجة على وجهه.
وقد حصل أن انتصرت فيتنام على أمريكا في 30 أبريل/نيسان من عام1975 وهرب حكام سايغون، وتوحدت فيتنام الشمالية وفيتنام الجنوبية، وفِي هذه المناسبة العظيمة قرر الفيتناميون الاحتفال، وكان الاحتفال في مدينتنا الجامعية، وقاموا بدعوتنا. وهذه هي المرة الأولى التي نرى فيها الفيتنامي يشرب الخمر ويحتفل مع غيره من الشعوب. ويبدو بأن هذا الاحتفال كان بإشراف مؤسستهم الحزبية أو قنصليتهم، لأن كمية الخمور التي جلبوها كبيرة جداً، فضلاً عن أن عدداً من الفيتناميين كانوا يلبسون البزات، بدون ربطات عنق طبعاً. وكلفوا شخصاً لإدارة أمر الموسيقى.
وكان هذا الاحتفال من أطرف الاحتفالات وأغربها، فوفق التقاليد لا بد أن نشرب كأس النصر كلما رفع الفيتنامي الكأس مشفوعاً بخطاب بلغة روسية لا يمكن فك رموزها، لا سيما بالنسبة لنا نحن، المبتدئين. وما أن يترع الفيتنامي الكأس الأول ويثنيه حتى يكون قد فقد الوعي مباشرة وارتمى على الأرض فيحمل إلى غرفهم، وهكذا لم تمض ساعة واحدة حتى لم يبق فيتنامي واحد في الاحتفال، وأكملنا الاحتفال نحن العرب والأوربيين والأوكرانيين، بعد أن نسينا بأنه احتفال نصر الفيتناميين على أمريكا، حتى ساعة متأخرة من الليل.