د . أحمد برقاوي – الناس نيوز ::
الدعوة من المُدرِسة: مدرسة اللغة الروسية سيدة محترمة، ودودة، تتعامل معنا بوصفنا أطفالاً، مع أن أحد الطلاب من بيننا ربما يكون من جيلها. تبدو من ملامحها على أبواب الأربعين، أبلغتنا المعلمة بدعوتنا إلى طعام الغداء في بيتها يوم الأحد، وهو يوم العطلة.
وكلفنا أكبرنا سناً بشراء الهدية التي سندخل بها البيت، وأوصيناه بشراء هدية فاخرة، وفاخرة تعني بأن سعرها يصل حد الثلاثين روبلاً، وأنا أتكفل بالورد.
استقبلتنا المدرسة وزوجها، وكان بروفسوراً في الرياضيات، في بيت واسع جداً من بيوت كييف القديمة والجميلة، وهي تسمى البيوت القيصرية الأرستقراطية. وعرفنا فيما بعد بأن للنخبة العلمية الأكاديمية وضع خاص، ومن خصوصيتهم منحهم بيوتاً ضخمة.
إنها المرة الأولى التي ندخل فيها البيت السوفييتي، كانت علائم النعمة والدعة والثراء واضحة للعيان، أثاث البيت يذكرك بأثاث أيام زمان، صالون الضيافة واسع مليء بالتحف الفاخرة، البار متخم بأنواع الخمور المتعددة، وبخاصة الكونياك، وبعض الأنواع معروضة على طاولة ذات عجلات. طاولة السفرة هي الأخرى قيصرية. وسأتحدث لاحقاً عن بيوت الفقراء في لينينغراد (سان بطرس بورغ).
تقدم أكبرنا سناً وقدم الهدية المغلفة بالورق، ونحن نعرف شيئاً واحداً عن الهدية هو أنها مزهرية. قدمتُ لها باقة زهر التولبان (التوليب)، ومن عادة أوربيي الاتحاد السوفيتي أن يسارعوا إلى فتح الهدية، وفتحت المدرسة ما اعتقدنا بأنها مزهرية، وإذا بها قارورة من الفخار الرخيص الثمن، الذي يصلح للزراعة ووضعه في الشرفة الخارجية للبيت، بدا الخجل علينا واضحاً باستثناء المكلف بالشراء، فما كان من المدرسة إلا أن وضعت الهدية جانباً، وأحضرت مزهرية من الزجاج ذات التشكيل الجميل، ويبدو أنها من الكريستال التشيكي المشهور، ووضعت فيها زهر التلبانوف (التوليب) الذي أحضرته، وتبين لنا بعد دفع كل واحد جزءاً من القيمة الكلية، بأن ثمن الورد يساوي أربعة أضعاف سعر المزهرية.
لم تكن اللغة تسعفنا في الحوار مع أستاذ الرياضيات، الذي يعرف الألمانية، والإجابة عن أسئلته، وكان ينظر إلينا ابتسامة مستمرة، تشع منها روح اللامبالاة والسخرية. فالابتسام المستمر في الجلسة دليل على عدم السرور غالباً، ولم تكن المدرسة تدري ما تصنع لتنجب السعادة لنا. وبلغتها الروسية الموسيقية الحنونة كانت تخاطبنا بالقدر الذي تسمح بها لغتنا الروسية فهمه.
ومن أطرف أنواع النقاش الذي جرى بعد عودتنا من الدعوة إلى المدينة الجامعية حين طرح أحدهم سؤالاً: لماذا دعتنا المدرسة؟ وكانت الأجوبة التالية التي تدل على الذهنية:
– دعوتها بتكليف من عمادة الأجانب.
– دعوتها بأمر من بيت الصداقة.
– دعوتها دعاية – الدعوة نوع من العطف والاهتمام والحنان.
لم يكن جمال البيت، وأناقة الأثاث، وكرم الضيافة والهدية المعيبة موضع حكي. ولكن الجميع اتفق على رد الدعوة، ولكننا اختلفنا على المكان، اقترحت عليهم مطعماً تناولت في طعام العشاء، ولكنهم رفضوا إلا أن يكون الغداء في غرفة من الغرف التي نسكنها والأسباب مادية. وهكذا كان، ولم يكن الطباخ سوى أكبرنا ولكن دون أن نكلفه بشراء المواد.
حتى هذه اللحظة كنا في دهشة وإعجاب منقطع النظير بنمط الحياة الاشتراكية وازدهارها. النظافة، الوفرة، تلبية الحاجات، جمال الطبيعة، جمال العلاقات المعشرية، الحياة الرخيصة. الحياة اليومية، بعد مضي شهرين على وجودنا، تغرينا بالتجربة وتمثلها.