د . أحمد برقاوي – الناس نيوز ::

( 1 – 9 ) تفتح وعينا بالعالم على وجود دولة قائمة على وجه الكرة الأرضية اسمها الاتحاد السوفيتي، الاتحاد السوفييتي الذي كان بالنسبة لنا نحن جيل الشباب الفلسطيني بشكل خاص العصا الغليظة التي تٌرفع بوجه الإمبريالية الأمريكية. الاتحاد السوفيتي الذي يؤيد ويدعم حق الشعوب بتقرير مصيرها، يدعم الثورة الفيتنامية والثورة الفلسطينية، وكل حركات التحرر العالمية آنذاك.
وفي عام 1974 غادرت دمشق إلى موسكو لإتمام دراساتي العليا. أمضيت سنوات ست في الاتحاد السوفيتي. سنة منها في “كييف”، عاصمة جمهورية أوكرانيا، وخمس سنوات في لينينغراد.
عدت من الاتحاد السوفيتي في نهاية شهر أغسطس/آب من عام 1980. حاصلاً على شهادة الدكتوراه في تاريخ الفلسفة.
في 26 يوليو/أيلول عام 1991 لم يعد هناك في الجغرافيا دولة اسمها الاتحاد السوفيتي، وأُنزل العلم السوفيتي الأحمر المرصع بالمنجل والمطرقة من على مبنى الكرملين، ورفع العلم الروسي ثلاثي الألوان الأبيض والأزرق والأحمر. وليننغراد التي عشت السنوات الخمس فيها عادت إلى اسمها القديم سان بطرس بورغ.

وكييف التي أمضيت فيها عاماً من الفرح، صارت عاصمة دولة مستقلة تبحث لها عن مكانة في أوربا وعن وسيلة تحررها من روسيا، أو قل تحميها من روسيا.
الاتحاد السوفيتي، أو كما يسمى رسمياً (اتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية)، فجأة لم يعد موجوداً، بدون حرب عالمية ثالثة، الدولة التي سُميت بهذا الاسم بعد خمس سنوات من قيام ثورة أكتوبر/تشرين الأول الاشتراكية، أي عام 1922عاشت 70 عاماً تقريباً، وانفرط عقدها في عام 1991. والاشتراكية التي انتصرت ثورتها في 17 أكتوبر/تشرين الأول في روسيا من عام 1917 زالت كنظام اقتصادي وعادت الرأسمالية بأبشع صورها.
ستقرأ الأجيال القادمة التي لم تعاصر وجود الدولة التي كانت تواجه أمريكا وتسيطر على خمس مساحة العالم، وتهيمن على عدد كبير من دول العالم، ستقرأ عنها في التاريخ. لكنها لن تعرف شيئاً عن حياتها اليومية.

أكتب عن هذه الحياة بوصفي طالباً أمضى ست سنوات في ربوع هذه الإمبراطورية الحمراء، وعرفت ناسها وعاداتهم وعواطفهم وأحلامهم وحياتهم. أكتب عن دولة تحولت بقرار إلى خمس عشرة دولة.
لقد منحتني تجربة العيش في هذه الدولة الزائلة وعياً جديداً مختلفاً عن وعيي بها قبل حضوري إليها.
حيث ترى وتسمع وتواجه وتخاف وتتأفف وتسعد في عالم مليء بكل التناقضات، من جمال الطبيعة إلى قسوتها، ومن ثراء الثقافة إلى حصارها، من تعدد القوميات العائشة في دولة إلى أنماط الشعور المختلفة تجاه بعضها بعضاً، من الشعور بالكبرياء القومي إلى الإعجاب بالازدهار الغربي، من الشكلانية في مدح الشيوعية إلى العداء العميق لها.
من حياة الرفاه التي يتمتع بها الأطفال إلى حياة الحاجات المأمولة التي لا تتحقق. من تأفف الشباب إلى رضا الكهول، ومن النظام الصارم الذي يولد الخوف، إلى التحايل عليه.

من التقدم في مجال الفيزياء وعلم الفضاء والصناعات العسكرية إلى التخلف في الصناعات البسيطة المرتبطة بالحياة اليومية.
ومن الأغاني الفلكلورية الجميلة والموسيقى الكلاسيكية الأجمل والباليه الساحر، إلى الأغاني الأيديولوجية المملة، ومن لوحات المتاحف الأعظم في العالم إلى صور ماركس وإنجلز ولينين وأعضاء المكتب السياسي التي تملأ الشوارع والساحات.
زالت تلك الدولة صاحبة الخط الأحمر مع أمريكا، ولم يعد في العالم إلا أمريكا صاحبة اليد الطولى في التحكم بالتاريخ الراهن. الإمبراطورية الحمراء ذبلت وراحة كل دولة من دولها تبحث عن خلاصها الفردي.
والغريب بأن جميع الجمهوريات الأوربية السوفيتية التي تحولت إلى دول مستقلة تناصب روسيا العداء الخفي أو العلني، على عكس الجمهوريات المسلمة التي احتفظت بعلاقة حميمة مع روسيا بعد استقلالها.
عن دولة – إمبراطورية كانت تحكم نصف العالم أكتب الآن.