ميديا – الناس نيوز ::
درج – ليلاس حتاحت – هذه الحلقة الثالثة من ثلاث حلقات، تروي فيها الصحافية السورية ليلاس حتاحت، شهادة عن تجربة مؤلمة عاشتها في سجن لبناني أمضت فيه سبعة أيّام بلياليها، بعد اكتشافها تلفيق تهمة لها حين كانت في أوروبا، باستخدام اسمها ووثائقها السوريّة.
يوم الإثنين وبعد انقضاء ستة أيام في سجن الأمن العام، تم إبلاغي بضرورة نقلي إلى البقاع قسم زحلة واحتجازي هناك لحضور الجلسة مع القاضي يوم الثلاثاء، توترت لسماعي بسوء الأوضاع هناك، وأن السجن هنا يصنّف خمس نجوم مقارنة بذلك الذي سأذهب إليه.
حاولت الفتيات التخفيف عني وإضحاكي، خصوصاً أن إحداهن كانت بارعة في التقليد وهي الأقدم في السجن. قلّدت ردة فعل كل واحدة منا لحظة دخولها الزنزانة، اكتشفنا أن جميعنا اشتركنا في الذعر من المجهول، والآخر الذي لا نعرفه. كل عبّرت بطريقتها، فمنهن من صرخت وبكت بأعلى صوتها طالبة الخروج، ومنهن من تعبت يداها من الضرب على الباب الحديدي من دون مجيب. واحدة حدقت بالأخريات وذهبت لتنعزل من دون كلام أو اختلاط، وأخرى ابتسمت في محاولة لحماية نفسها.
جميعنا ضحكنا من خوفنا وحركات مقلدتنا المبالغ فيها، كنا نُذكّرها ببعض الفتيات التي نسيت تقليدهن، أو اللواتي لم نشهد دخولهن ممن سبقننا في سجنهن. إلا أن الضحكات لم تحمني من آلام عصب الوجه (العصب الثلاثي التوأمي) الذي أعاني منه مع تغيير درجات حرارة الجسم أو المزاج. بدأت التيارات الكهربائية تسري في وجهي، نوبات ألم تأتيني بالتتابع، والمدة بين الهجمات تتقلص، كما المخاض، وهذا يعني أن الألم سيتصاعد الى درجة فقداني السيطرة على صراخي أو اختلاجات جسدي. أحاول كتم صرخاتي عن الآخرين بدفن رأسي في المخدة وتغطيته. ألاحظ انقطاعي عن التنفس للحظات. كان لا بد من تنبيه الفتيات كي لا يخفن من حالتي. هي أشبه بنوبة الصرع. لن يستطعن فعل شيء. طلبت منهن ألا يلمسنني، فلا أطيق يداً علي وأنا أتألم، ولا جدوى من مناداة “الباش” أو طلب الذهاب إلى المستشفى. هي آلام تأتيني في حال عدم الالتزام بالدواء أو أوقاته، أو في حال تعرضي لرض نفسي قوي، وكلاهما يحدث حالياً.
في الماضي كان يسمى مرض الانتحار لقتل بعض المرضى أنفسهم من شدة الألم، وشبه البعض آلامه بآلام الولادة، أما ألمي فبينهما وكنت قد وصلت إلى مرحلة مقبولة من الألم بعد علاج طويل، بل كنت سعيدة بعدم تعرضي لنوبات حادة في الآونة الأخيرة. لكن أكثر ما كنت أخشاه دائماً هو أن يراني أحدهم في هذه الحالة من الألم والضعف. لكن هنا لا مفر، سيراني الجميع، ألسنا جميعاً ضعفاء، نتشارك حكاياتنا، حياتنا ومعاناتنا خارج جدران هذا المكان وفيه.
عرضت عليّ نجوى (الفتاة الكردية من عفرين) مسّاجاً لرأسي، ادّعت أنها تجيد التدليك وتعرف كيف تتعامل مع آلام الرأس. وضعت رأسي في حضنها، كنت مُسَلِّمةً لأي حل قد يخفف أوجاعي. بدأت أصابعها تتخلل شعري، وصوتها أذني، لم أكن أميز الكلمات في البداية، مجرد تمتمات إلى أن ميزت قراءتها لآيات قرآنية وهي تضع بكفها على جبيني، تضغط حيناً وترخي حيناً آخر. ظلّت على هذه الحال حتى هدأت وغفوت في حضنها، نمت بعمق لم أعتده وصحيت على صوت الباش “ليلاس، يلا معك خمس دقايق، قومي إجا نقلك ع زحلة”.
“المواويل جمعت والمؤذن فرّق”
انتبهي اذا معك مصاري حطيهون بالأمانات، هون ممكن يقتلوكي ليشلحوكي اللي معك.
ليش مع مين رح كون.
السجن هون مو متل اللي كنتي فيه، بياكلوكي بلا ملح، كله مجرمين.
طيب في مجال نام بمكان لحالي.
لأ، بس “عدي” شوي ارتاحي قبل ما تفوتي.
انتفض قلبي من الرعب، أرعبتني نظرات رجال الأمن المتعاطفة، لطفهم غير المعهود، وجملة “حرام كانوا ينقلوكي هون، الله بعينك ع هالليلة”. ما الذي ينتظرني في الزنزانة، من هم السجينات، ولمَ كل هذا اللطف؟ هل كان لمحاميتي دورها في ذلك، أم أصدقائي اللبنانيين والأوروبيين الذين يحاولون جهدهم لإثبات براءتي؟ هل شكل جواز سفري الأوروبي رادعاً؟ أم كان عملي في مؤسسة إعلامية أوروبية شفيعي ومنقذي؟ ربما كان لكل ما سبق دور في إعطائي بعض الامتيازات التي كنت أخجل من حصولي عليها دوناً عن الآخرين.
لمست في عيني أحدهم وداعة تنم عن طيبة طبيعته، وهذا ما أكدته السجينات في ما بعد. سألني إن كنت جائعة، شاركني طعامه، أطيب سندويشة دجاج تذوقتها في حياتي، أو هذا ما شعرت به آنذاك بعد أيام من سد الجوع بأطعمة السجن ومذاقها السيئ، شاركتها مع الفتيات، نصيبي كان لقمة واحدة بعدما استعصى علي حتى ابتلاع الماء بعد دخولي الزنزانة.
الزنزانة، كم تشبه معتقلات الأسد ومنفرداته، متر، بثلاثة أمتار، مصطبة اسمنتية عالية تستلقي عليها امرأة حامل في شهرها الرابع، وعلى الأرض فراش رقيق يخرج من أطرافه الاسفنج المنتف، تجلس عليها فتاة نحيلة قوية البنية، قاسية الملامح تدخن بشراهة وقد جعلت من كيس أغراضها مسنداً لظهرها.
لا نوافذ، ما تبقى من لون الحيطان الأصلي أصفر باهت، يعلوه سواد العفن واخضراره وتراكم الأوساخ التي حُفر عليها الكثير من الأسماء والتواريخ والمظلوميات وقلوب الحب والشتائم والأدعية. المكان ضيق للغاية، الهواء سام في الداخل، لم أستطع التنفس في البداية. الروائح هنا واخزة، وكما معتقلات الأسد ومنفرداته، التواليت مكشوف على المكان، وضعت الفتيات بطانية لفصله وغالوناً بلاستيكياً لتغطية البلّاعة التي تفوح منها رائحة قوية جداً للمجاري زادت من إحساسي بالغثيان حد التقيؤ. هناك حفرة في الحائط فيها علبة بلاستيكية فارغة من مخلفات حافظات الطعام، وزر معدني جانبي، اكتشفت في ما بعد ضرورة ضغطه لينزل الماء من ثقب في أعلى الحفرة، يتجمع في العلبة البلاستيكية لنغسل بها وجوهنا ومؤخراتنا معاً.
صفااااء شو تهمتا للجديدة عندك؟
صوت رجل من الزنزانة في آخر الدهليز، فترد صفاء من موقعها:
عم تقول تزوير.
هي اللي مزورة ولا في حدا مزورلها؟
أنا: والله ما دخلني تبلي (تجني).
الرجل: بسيطة قوليلها ما تقلق، ما بينحكى بأمرها.
رجل من الزنزانة المجاورة: ناديلا نشوفها.
طبعاً لا مجال لرؤيتي، هي نافذة مستطيلة ضيقة في أسفل الباب الحديدي، نجلس على الأرض وننحني لنرى عيون بعضنا البعض.
النوافذ على ضيقها سمحت بالتواصل بين السجناء، وتحديداً بين الرجال ونساء هذه الزنزانة، فمكان زنزانتنا استراتيجي، في الصدارة عند نهاية الرواق الضيق، بحيث يمكن مشاهدة الأبواب الجانبية كافة وعيون سجنائها.
كنا نمد صحناً بلاستيكياً للزنزانة المجاورة ليعود إلينا بكأسين من الشاي الساخن مع نعناع “للضيفة الجديدة”. احتفلوا بقدومي فأنا قصة جديدة ستشغل حديث يومهم، سيتجادلون على احتماليات الحكم الذي سيصدره القاضي بحقي، ولديهم تقييمهم الخاص لكل قاضٍ هناك، من منهم العادل ومن العنصري، المتسامح، الصارم، الذي يسمع وينصت وينصف، والذي وصفوه “بمشي الشغل والسلام، انت وحظك”.
ناداني شاب سوري، سألني عن الأحوال في الخارج، في حال سماعي عن أي خبر حول تسليم السجناء السوريين في لبنان إلى الحكومة السورية. وعند سؤالي عن تهمته اعترف بتهريب أنواع المخدرات كافة، وبأنه يعيش في لبنان منذ عشر سنوات، أي قبل أن يتم الثامنة عشرة من عمره. أحببت صراحته وضحكنا، لم أبشره خيراً حين أعلمته أن نقله إلى سوريا لن يعفيه من المحاكمة أو تمضية فترة العقوبة في السجن.
طلب مني التواصل مع والدته، مرة أخرى من الفتحة الضيقة، رمى حبلاً مصنوعاً من الملابس الممزقة، ربط فيه ورقة ملفوفة على “مسبحة” لجعلها أثقل، كتب فيها رقم والدته. لم أشعر أنه أراد طمأنتها فحسب، ربما أرادها مبادرة للاعتذار، أو التواصل، والذي اكتشفته بعد خروجي، أن عائلته قد قاطعته منذ زمن بعيد بسبب أفعاله ومصائبه المتكررة كما وصفتها الأم. وتأكدت حينها أنه أراد عودة التواصل ولو كان من خلالي، أراد أن يذكرهم بوجوده، بوحدته وبحاجته إليهم. أما المسبحة فكانت هديتي منه، مصنوعة من بذور الزيتون، ومصقولة بحرفية من يحارب جمود الوقت وأفكاره في صمت السجون.
هذه المرة ناداني شاب آخر من الزنزانة المجاورة، لم تظهر عيناه، بل برز فمه فقط، فم “الشيخ حسن”.
ليكي بدي اسألك.
اتفضل.
ظهر سماحة السيد؟
أيا سيد؟
السيد حسن.
ليه من ايمتا انت هون، ما وصلك خبر انه اغتالوه؟
شفتي جثته؟ بكرا شوفي كيف حيظهر.
شفت ولا ما شفت، مات ولا عايش… خلص راح، بححح.
للأمانة كنت سعيدة وأنا أنطق بهذه الكلمات، تمنيت لو نظرت إلى عينيه التي لم يواجهني بهما. تراجع عن الباب وغاب، ولم أسمع صوته الشجي بعدها إلا في أوقات الأذان، الذي يعيده على مسامعنا خمس مرات يومياً.
كان يقطع بأذانه أحياناً صوت غناء سجين في الزاوية البعيدة، مواويل حب واشتياق، يرد عليها السميعة من الزنزانات المجاورة بكلمة “الله آااه” ويتحول بعضهم بعفوية إلى كورالٍ يعيدون المقطع ويجودون عليه مع موسيقى الطرق على أي شيء بلاستيكي لضبط الإيقاع، الإيقاع الذي يجمع السجناء على اختلافاتهم وخلافاتهم الدينية، العرقية، الاثنية، المناطقية، الطبقية، السياسية، في حين تنشب المعارك لدرجة تدخل الشرطة، ومعاقبة البعض بنقلهم الى زنزانات أخرى عند مناقشة الدين أو السياسة.
كان الشيخ حسن منبوذاً بشكل عام ليس لانتمائه الى طائفة معينة أو لتبنيه عنف حزبها وسياسته، وإنما لخلاف في وجهات النظر وصل الى حد هجومه وتعديه بالضرب على شريكه في الزنزانة، وهو شاب سوري سرد تجربته مع مجازر حزب الله في سوريا وقتلهم وتشبيحهم الذي مارسوه في منطقته، ومتاجرتهم بالكبتاغون والحشيش.
لم يستطع شريكهم الثالث في الزنزانة فك العراك، فبدأ الجميع بالصراخ والضرب على الأبواب الحديدية ليتدخل حراس السجن، والعقوبة بالطبع كانت بنقل السوري وعزله في زنزانة بعيدة. أما السبب الثاني المنفر من الشيخ حسن فهو تفريقه الأحبة، كانت النوافذ الضيقة كافية لتلاقي العيون، ورمي الحبال المحمّلة برسائل الحب والرغبة، يليها وَنسُ ندماء الليل ومحادثاتهم التي تبدأ بالحب والاطمئنان على حال الفتاتين، وتنتهي آخر الليل بشهوات وخيالات اللمس والتقبيل والجنس ومن ثم صوت شهقة عالية مع ارتطام الماء البارد على الأجساد.
تضحك الفتاة (صفاء) ساخرة، موجّهة حديثها لي “كترانة حمامات الشباب، حتى اللي عم يسمعوا بس، ههههه كله إلا الجنابة”، وتعاتب شريكتنا في الزنزانة “خطيتك عاقبوه للزلمة، مو حرام نقلوه عالكوريدور التاني، لازم تغمقوا بالحكي، خليكي عالوش الوش”، ترافق كلامها مع حركات يديها وتلميحاتها الجنسية التي أضحكتنا جميعاً.
إلا أن الثانية (ندى) لم تسكت “خطيته برقبة اللي عامل حاله شيخ، راح وفسد للضابط واشتكى علينا”، وبالطبع كان لا بد لي من مشاركتهن بعض التعليقات “خاف على حاله لينحرف وتطالعوه من المشيخة”. احمرت وجنتي ندى وهي شديدة البياض ممتلئة الجسد بعيون ملونة أثناء وصفها بشير، خوفه عليها، حنيته، سؤاله الدائم عن حالها بعد النزيف الذي أصابها وكاد يودي بجنينها.
بدأت تحدثني عن احتياجها الى الحنان الذي لم تشعر به يوماً من أم قاسية كانت تقيدها وتضربها خوفاً عليها من جمالها الذي قد يجرها إلى الرذيلة، أو من إغواء الرجال وغدرهم، لم تسمح لها بحضور أعراس الضيعة، ولا اجتماعات العائلة، وكي لا تشذ حسب تعبير الأم زوّجوها لابن عمها الذي كان يضربها ويهينها ويحبسها في البيت، وإن اشتكت لأهلها أعادوها إليه، فهو القوّام عليها وله أن يفعل ما يشاء.
كلمات عائلتها جعلت الزوج يستقوي ويعنفها أكثر، فلا حام ولا شفيع، ما زالت تسمع ندى صدى كلمات أمها تتردد في كوابيسها ولحظات صمتها وما أكثرها داخل السجن “طالعة من بيت جوزك مالك، انشا الله بيسلخ جلدك عن لحمك وبتحمليه ع إيدك”، إلى أن قامت الثورة السورية ودُمرت منازلهم واضطروا للنزوح إلى مناطق أخرى، ما سمح لها بالتعرف إلى زوجها الحالي، تبادلا نظرات الحب خلسة، وكانت أوقات خروجها لتعبئة الماء وإحضارها الى الخيمة متنفّسها للإفلات من سجن الخيمة والمخيم ورقابة الزوج وتعنيفه.
كانت تراه بعيداً عن الأنظار، إلى أن اتفقا على الهرب سوية إلى أحد المخيمات في لبنان، الحنية نقطة ضعفها التي لم تعهدها إلا من زوجها الحالي الذي تحبه وهو في سجن العدلية ببيروت، ومن بشير في الزنزانة البعيدة، اعترفت بحبها للاثنين معاً، ورغبتها في بقاء التواصل معهما بعد خروجها من السجن، وعند سؤالي عن عدم وجود أحد يسأل عنها، أجابت بأنها علوية من الساحل، وزوجها الحالي سني من إدلب، أهلها هدروا دمها، وسيقتلونها إن عادت. استغربت من لهجتها التي لا تتشارك فيها لا من قريب أو من بعيد مع أهل الساحل في شيء.
بس لهجتك ديرية (من دير الزور).
لا أنا علوية.
بس اللي بعرفه العلوية ما بيدبحوا، ممكن يتبرؤا منك.
أهلي بيدبحوا.
ابتسمت ونظرت إليها نظرة العارف بأنها تدعي انتماءها الى طائفة ما، أو منطقة دون أخرى وسألت:
طيب من وين متعلمة اللهجة الديرية؟
إمي ديرية.
لم يخطر لي حينها أن سبب ادعائها الانتماء إلى الطائفة العلوية، هو الخوف من الترحيل إلى سوريا، أرادت البقاء في لبنان قريبة من زوجها، فقد تم إلقاء القبض عليهما ليس فقط بسبب عدم وجود إقامة في لبنان وإنما بتهمة السرقة.
التفتّ إلى صفاء لأخفف من ضغط أسئلتي على ندى، فلا تضطر لاختراع أكاذيب أخرى.
وأنت صفاء ليه هون؟
في واحد عرص متهمني بسرقة خمسة آلاف دولار من سيارته.
بتعرفيه؟
بحياتي ما شفته، قال طلعت معه بالسيارة ليوصلني ونشلته. يثبت لشوف، وين البصمات؟
صفاء فلسطينية وُلدت في لبنان، صغيرة في السن، لكن قساوة حياتها جعلت الهرم يطاول وجهها، متعبة، نحيلة، أسنانها وقعت غالباً من تعاطي المخدرات. كان زوجها السابق يعنفها أيضاً، أمضت سنين زواجها بين السجون والمحاكم والعمل لدفع كفالاته وإخراجه من ورطاته التي تبدأ بالسرقة ولا تنتهي بالتعاطي والمتاجرة بأنواع المخدرات كافة. دخلت المستشفى مراراً بسبب الضرب المبرح بعد ثورات غضبه المتكررة، لم تعد تحتمل فتركته وأولادها خلفها ورحلت، لا يعرف أحد بها، ولا يهتمون، لا أهل ولا إخوة “كله أخرى من بعض، المهم ما تقربي عليهن، اختي من إمي وأبي ما تحملتني عندا أكتر من يومين وطلعتني برا البيت”.
طيب ليه اتهمك انت.
ورجوه بالمغفر صور، وشاور ع صورتي، هيك بهالبساطة مين بحاسبه؟
وشو ح تعملي؟
أنا أذكى منه، قلتلن بالتحقيق إني ممسوكة زمان بتهمة دعارة، يعني القضية نشل، كبيرها خمس شهور، صرلي مقضية منهم ثلاثة، لأن السرقة حكمها أكبر، بتبطل جنحة متل النشل.
وبما أن الفتاتين كانتا تكذبان أو تخفيان كثيراً من التفاصيل، كانتا تفهمان على بعضهما، تهمزان وتتخابثان على ضعف رواية كل منهما، وبعد مضي بعض الوقت نظرت إلي صفاء بجدية “ليكي ما في غيرنا بالغرفة، بصراحة شو تهمتك؟ ليش انت هون ما فاتت براسي قصتك”.
والله تزوير.
ثم ضحكت عالياً وتداركت:
يخرب بيتك خليتيني قول كلمة تزوير وأنا مو عاملتها حتى. بس والله هي قصتي.
لم يكن سهلاً أن نأمن لبعضنا في هذا السجن، هنا ليس كسابقه، لا وجود للتسامح أو التعاطف الذي يسبغ الأمكنة المؤقتة، هنا الظروف أقسى بكثير وغير آدمية، ومع طول المدة نتجرد فعلاً من صفاتنا الإنسانية. هنا جنايات وجنح، سجناء طحنتهم الحياة، جردتهم من إنسانيتهم في سبيل النجاة، يرون في بعضهم فرصاً للاقتناص، مال، طعام، سجائر، أي شيء، ليس لأنهم انتهازيون، بل لأنهم لم يحصلوا على حق في هذه الحياة إلا باقتناصه، والنصر الأكبر إن كان من فم السبع.
العلاقات مركبة في هذا السجن، متشابكة ومنفصلة ولها نظم وقوانين لا يعرفها إلا من أمضى وقتاً لا بأس فيه هناك، من يُعطي يعلم أن الآخر يستغلّه لكنه يستمر في العطاء إما كمن يفعل خيراً ويرميه في البحر، وكما هو معروف تجار المخدرات هم الأكثر كرماً، أو أن العطاء مرتبط بفرض السيطرة والسلطة.
كانت لأحدهم سلطته في الخارج إلا أن التهم موثقة بفيديوهات وشهود ولا مجال لحكم البراءة وإن كان بالرشوة، أما الميزات التي يتمتع بها في السجن فهي كثيرة، من طعام جيد يصله من العائلة، ومال وفير يشتري به ما يشاء، يوزع السجائر ويعتني بالفتيات التي لا معيل لهن، وهن كما حال الضعفاء يدعين له ويباركن أفعاله الخيّرة ويغازلنه بطريقتهن. في الوقت نفسه لا يخفى على أحد من هو طيب القلب، ومن يستغل الفتيات وأصحاب المال، من يشي بأمورهم للأمن، من يحب التسلية وتمضية الوقت بالثرثرة، ومن يعتزل ويصمت ومن يقع بسهولة في شباك الحب والغرام.
كانت ندى تلوم صفاء على تركها أولادها وتفضيل حياتها عليهم. أرادت شهادتي في الموضوع معتقدة أني سأوافقها الرأي، لكنها تفاجأت بردي الذي جاء عكس توقعاتها: “ما فيكي تحكمي عليها، هي اللي عاشت هالظروف، وما بعتقد في أم بتترك ولادها إذا ما وصلت للحد، وما عاد فيها تتحمل… حتى إذا كرمال تعيش حياتها، هاد خيارها ما حدا إله عندها شي، بعدين مين أنا لأحكم عليها؟” .
هذه الجملة فتحت قلب صفاء “إي والله، الله بيعلم يا ليلاس شو شفت وشو عشت”. بدأت تناديني باسمي، تحكي لي عن حياتها، وأشاركها تفاصيل مشابهة من حياتي. بُحت لها بتعنيف زوجي السابق لي، وما عانيته من إخفاء الموضوع خوفاً من عدم تصديق الآخرين. تشاركنا المعاناة وآليات الخلاص التي اتبعناها كنساء، منّا من هربت، وأخرى رفعت سكيناً في وجه مُعنّفها لتحمي نفسها، أما أنا فقد عانيت لسنين طويلة من عدم وجود قانون يدعمني لنيل الطلاق.
جميعنا على اختلاف انتماءاتنا وتعليمنا وظروفنا لم نجد من يحمينا، أما العائلات فمنهم الذي لا يقل في تعنيفه عن الزوج، ومنهم من يطلب الصبر والسترة خوفاً من وصمة العار المرافقة للطلاق، آخرون لا يملكون الفائض المادي لتحرير بناتهن، وإن وُجد فهو لابنتهم من دون أطفالها، أما القلة القليلة الداعمة لخيارات بناتها فتصطدم بعوائق الدولة وقوانينها.
تراجعت ندى عن اتهاماتها لصفاء مبررة رأيها السابق بتجربتها وخوفها من القسوة التي يمكن أن يتعرض لها أي طفل، خصوصاً وأن ابنتها الصغيرة تعيش حالياً في خيمة جارتها، الجارة الوحيدة التي تزورها وتحاول البحث عن أي مشترٍ لخيمة ندى ومساعدتها في دفع الكفالة. وللمرة الأولى وبرغم عملي سابقاً مع اللاجئين في المخيمات، أعرف أن الخيمة تباع ولها سعر قد يصل إلى 400 دولار أو أكثر. سألتها كيف ستتدبر بقية المبلغ، فردت صفاء بدلاً عنها مع غمزة عين “انشا الله صدقتي فيلم الحب والغرام وسيكس الليالي اللي عم تعمله علينا؟ بقص إيدي يا ندى إذا ما عم توقعيه ليكملك مصاري الكفالة، وبقص إيدي التانية إذا ما كان معتر أكتر منك وهو بده مين يشيلو”.
نفت ندى الاتهامات الموجهة لها، وصدقتها، فلمعان عينيها واحمرار وجهها لا يكذبان في كل مرة كانت تحدثني عنه.
“فيي اطلب منك طلب” سألتني ندى مترددة.
طبعاً.
تكتبيلي رسالة لبشير؟
لوهلة لم أستوعب أن كلَي الفتاتين لا تعرفان الكتابة، صمتت كي لا تشعرا بالنقص، ولصدمتي بأننا في عام 2025 وما زالت هناك شابات لم تتجاوزن العشرينات من أعمارهن ولا تعرفن القراءة أو الكتابة!! تداركت صمتي بسرعة ومن دون تردد:
أنا اللي بساعدك، شو في أحلى انه نقفل الليلة بالغزل والغرام، بس كيف بدك توصليها؟ زنزانته بعيدة وبتخافي إذا زتيتيها من إيد لإيد توصل لإيد الشيخ.
ضحكنا جميعاً، وبدأت ندى بالتفكير، فالعادة المتبعة هي أن يرمي المساجين ما يريدون إيصاله إلى الممر، كل زنزانة اقتطعت من الفراش جزءاً من الاسفنج تخرجه من الفتحة الضيقة، وتدفع بالغرض المرمي، سواء علبة سجائر، كيس طعام، كل من جهته حتى يصل إلى الزنزانة المقصودة. أما رسائل الحب والغرام فمرسالها أم علي.
مافي غير إم علي توصلها.
مين إم علي؟
الختيارة اللي بتجبلنا الأكل، بس قويّة، يا ويلي منها عمرها فوق السبعين ومية رجال ما بوقفوا بوشها.
قصصنا جزءاً من الورقة التي أرسلها لي الشاب كاتباً رقم والدته، ورمى أحدهم لنا بقلم سحبناه بالحبل ذاته الذي يصل الزنزانات ببعضها.
طلبت منها أن تمليني كلماتها التي بدأتها بحبيبي بشير، عبّرت عن أشواقها وفقدها له ولحنانه وسؤاله عنها، لم تنسَ في رسالتها أن تدعي الله بأخذ الشيخ الذي فرقهما، وتطلب من عشيقها أن يُسمعها صوته إن وصلته كلماتها لتتأكد أن الحجة أم علي قد سلّمت الرسالة. لم أتوقع أن الصوت المنتظر هو موال كان يغنيه دائماً لها، حتى قفزت من فراشها وقرّبت أذنها من فتحة الباب الحديدي، احمرّ وجهها، نظرت نحوي وصوتها يرقص فرحاً “وصلته الرسالة” وحلّقت مبتعدة عنّا في صوته وخيالاتها.
“البارحة بالحلم، حاضن الغالي.
فزيت من نومتي لأن الحضن خالي.
البارحة في الحلم حبيبي بأحضاني، بوّسني من وجنتي وطفّالي نيراني.
قلتلو حبيبي اقترب، عوضلي حرماني
هل تقبل مروتك تتركني وحداني
أموت حسرة وقهر لو لحظة تنساني
لك أقبل أعيش بسجن، لو انت سجاااااني…”
الشباب من الزنزانات الأخرى ” الله.. الله” لتبدأ وصلة الغناء الجماعية.
“اسألي عن الدادو”
اقتربت صفاء مني وطلبت أن أكتب لها اسمها بالكامل، ورقم الدعوة الخاصة بها، لترسلها إلى أحد السجناء الأسخياء الذي وعد بسؤال المحامي الخاص به، لأكتشف أن صفاء هو اسم حركي، كي لا يتم التعرف عليها بعد خروجها من السجن، كذلك ندى، سخرن من غبائي “لكن متلك هبلة قلتيلون اسمك لما سألوكي، ما لحقنا ننبهك، في حدا بيعطي اسمه هون؟”.
في ما بعد سألتني إن كان بإمكاني كتابة رسالة لحبيبها الدادو، حكت لي عنه وعن غزلهما الليلي أيضاً، لم تر حتى عينيه ولم يرها، فزنزانتاهما بعيدتان عن بعضهما، هو الصوت والرسائل التي لم تستطع قراءتها من قبل، أخرجتها من الكيس البلاستيكي الخاص بها، وطلبت مني قراءتها بصوت عال، لا أسرار في السجون، وإن لم تكن على وفاق ضمني مع ندى لكن لا مفر من سماعها للتفاصيل، إحدى الرسائل جعلتنا نقلب على ظهورنا من الضحك، وصلتنا طاقة الدادو ودرجة إثارته ووعده بأنها لن تقابل “أحيون منه” وليضفي روح الدعابة على الرسالة لم يشبه نفسه بالثور الهائج مثلاً، أو النمر أو الأسد، وإنما بالحمار.
أعتقد أنه أراد أن يقول وإن خانه التعبير بأنه بدائي في حبه الفطري ورغباته لكنه غير مفترس. وكما رسائل الحب الطفولية، ذيّلها برسمه لقلب وسهم يخترقه من المنتصف. أحببت رسمته البدائية على الجهة الخلفية من الرسالة، لم يرسم فتاة بصدر كبير مثلاً، أو منحنيات بارزة أو رموش طويلة، أو شامة على الخد أو فوق الشفّة، بل كانت لفتاة شبيهة بتلك التي يرسمها الأطفال والمستوحاة من الرسوم المتحركة، كان فستانها طويلا ًكالأميرات، كانت صفاء ببساطة أميرته.
طلبت منها أن أحتفظ بهذه الرسالة التي خففت عنا وحشة المكان وأدمعت أعيننا ضحكاً، فوافقت مدعية عدم اهتمامها.
الوقت طويل ويمر ببطء لا مجال للنوم، ليس بسبب القلق وثقل الهم بل من شدة البرد. أحاول ألا أشرب الماء لتجنب الدخول إلى الحمام. أشيح بنظري عن بلاعة التواليت وما تثيره من رعب وفزع وصدمات. كنت أتحاشى الاستناد إلى أي حائط، أحاول التركيز على تنفسي المتقطع بسبب غيوم دخان السجائر، دموع عيني لم تكن حزناً بل حساسية جعلتهما تغليان من شدة الاحمرار والحكة. إلى أن استسلمت وشعلت سيجارة مع الفتيات تلاها العلبة بكاملها. انتهت جميع الأحاديث، وتعبت من كثرة استجوابي لهن واستجوابهن لي. ففتحت الكتاب الذي أرسلته صديقتي لقراءة بعض الصفحات علّها تساعدني على النوم، ولم أكن أعلم حينها أن هذا الكتاب سيملأ روحي ليس بما كُتب فيه، بل بالدفء الذي نشره على الجميع في تلك الليلة.
سألت ندى: شو عم تقرأي؟
رواية اسمها “أوكي مع السلامة”
صفاء: حلوة؟
ما بعرف لسه ما خلصتها.
تقريلنا منها.
نظرت إليهما لأتأكد إن كانت فعلاً رغبتهما معاً وألا أحد سينزعج، وجدت عيوناً مستديرة، يملؤها الفضول والحماسة، فرحت وقررت العودة إلى الصفحة الأولى، وليس إلى حيث وصلت في لياليّ السابقة.
كنت أقرأ وأتقمص شخصيات عدة، الراوي حيناً، الكاتب، شخوص الرواية، أتلاعب بصوتي محمّلة إياه المشاعر كافة التي تحتملها الكلمات. وكأنهم يتابعون دراما إذاعية، ضحكت ضمنياً من الفكرة لكنها أعجبتني.
كنت أنظر إلى وجوههن وأقرأ تعابير المتعة عند سردي بعض مشاهد الحب أو الكلام عن الجنس، بل أكاد أرى تخيلات كل منهما لحبيبها في الزنزانة الأخرى، إلى أن أوقفتني ندى عند جملة “أتعلم أن ثمانين في المئة من النساء يبلغن الأورغاسم من برا، وعشرين فقط منهن يبلغن من جوا؟” متسائلة “شو يعني؟ مافهمت”، اعتقدت أنها لم تفهم كلمة أورغازم فشرحت لها بالعامية ما تعنيه، ما زالت عيناها حائرتين، خجلت أن تعيد السؤال بعد سخرية صفاء منها “حامل وعندك بنت ومقضيتيها حب وغرام وهريبة وعم تجدبيها ما بتعرفي شو يعني الوحدة توصل، تجيب ضهرها”. ادعت ندى أنها فهمت، لكن نظراتها التائهة أوحت لي بأنها للتو اكتشفت شيئاً لم تعرفه قبلاً، وإن خمّنت سأقول إنها لم تختبره أو تشعر به، ندى لم تصل إلى الأورغازم من قبل.
عدت الى القراءة، صفاء الساخرة دخلت شرنقتها وغطت وجهها باللحاف، فهي تحب إخفاء مشاعرها، تهرب بالسخرية وإبراز قوتها وفُجرها، وتخاف من أن يرى ضعفها أحد. سألتها إن أرادت مني الصمت لتنام، فردت “بالعكس كملي”، وأكدت ندى استمتاعها بالقصة وطلبت أن أكمل، عادتا للاستغراق في رسم صور للشخصيات والأماكن والمشاعر التي أسردها حتى غلبهما النوم.
“سفاح المحارم”
كلما تذكرت شعرت بالخجل من سلوكي، كيف سمحت لنفسي بالاختيار نيابة عنهما، وتوقع ردة فعلهما بشكل مسبق واتخاذ القرار بناءً على تقييمي السريع في ما إذا كنت سأقرأ هذا المقطع أم أتجاوزه، لأجد نفسي أملأ الفراغات كي تبدو الجمل متسقة والأحداث متتالية. هل خشيت استهجانهما وهما اللتان عاركتا الحياة وما كُتب موجود في البيئات والمجتمعات كافة؟ هل خفت من ردة فعلهما على شيء قد يطلقان عليه سفاح محارم؟ هل سأجد نفسي أشرح البعد النفسي لهكذا سلوك طفولي؟ أم سأساير فهمهما؟
“كانت غوى هي البكر وأنا تاليها، وكانت تصغر أمي بخمس عشرة سنة وتكبرني بسنة واحدة، وكنت أطلعها على ما كان يحصل معي، وأريها رجولتي التي أكتشفها شيئاً فشيئاً، وأكتشف حجمها وتفاصيل كيانها، وعندما استحلبت نفسي المرة الأولى، وكنت في نحو الثانية عشرة، ودُهشت من هذا الماء الذي خرج مني، أخبرتها بالأمر فاهتمت كثيراً، وطلبت مني أن أريها كيف يحدث ذلك، فوعدتها بما طلبت… دخلنا إلى الحمام وأغلقنا بابه علينا، وراحت أختي تلح عليّ بأن أسرع، ولما نفر مائي اقتربت منه وراحت تتحسسه بيدها، كأنها تتفحص قطعة قماش”. (من رواية أوكي مع السلامة للكاتب رشيد الضعيف)
معالجتي النفسية طلبت مني أن أثق بحدسي، وأبرر لنفسي دور الرقيب، فأنا لا أعرف ما تعرضت له الفتاتان في حياتهما، وفي ما إذا كانت قراءتي لبعض الكلمات ستثير صدمات ونوبات هلع لديهما. لكن مهما كانت الأسباب التي تخفف عني لوم نفسي، لو عاد الزمن بي فلن أتجاوز المقطع، وسأثق بتجاربهن وقدرتهن على الفهم والاستيعاب الذي لم أتحلّ بهما عندما قررت اقتطاع النص من سياقه.
لم أستطع النوم، هي ليلتي الأخيرة بانتظار الجلسة، انتظرت بفارغ الصبر أن يستيقظ الشباب في الزنزانة المجاورة، سمحت لنفسي بطلب فنجان قهوة، وسألتهم من أين حصلوا على الماء الساخن البارحة للشاي، ضحكوا واعترفوا بحرق بعض الورق، وأحياناً أي شيء متوافر بما فيه البلاستك، ورغم رائحة البلاستيك المحروق الواخز للأنف والعين، استنشقنا الدخان الأسود مع السجائر الصباحية، واستمتعنا بطعم القهوة المغلية.
تم استدعاء صفاء وندى، كل إلى جلستها، اعتبرن “قدمي خير” ووجهي حلواً عليهما، ابتسمتُ لكني لم أستطع الكلام، كان مستوى التوتر يعلو مع كل ساعة تمر، فالجلسات هنا حتى الساعة الثانية فقط، وإن لم يستدعوني قبلها سأنتظر أسبوعاً آخر وفقاً لجدول حضور القاضي، كل ثلاثاء فقط، سألت الشرطي عند إعادته ندى إلى الزنزانة:
أين محاميتي، هل أتت؟ لمَ لم يستدعني أحد حتى الآن؟
محاميتك هون، بس القاضي تأخر لهلأ ما إجا، انشا الله ما بيتأخر أكتر.
شعرت بضيق أنفاسي، ارتجاف أطرافي، يداي وقدماي تكادان تتجمدا وخدر في رأسي، شعرت صفاء بتوتري، حاولت تهدئتي، وللمرة الأولى تمنيت لو تصمت، لم أعد أحتمل سماع أي صوت من شدة التوتر، فجأة صرخ الشرطي عند الساعة الواحدة “ليلاس… يلا بسرعة عالجلسة”، وللمرة الأولى أمد يديّ من دون تردد أو مفاوضات بألا أضع الأصفاد. كان لطيفاً إلى حد لن أنساه، مشى أمامي بطريقة تخفي يدي فلا يراني أحد مقيدة، إذ اضطررنا إلى المشي في زحام أروقة المحكمة وحاول تهدئتي والتفاؤل بأن أموري سهلة ومحلولة. احساسي بالفرج القريب جعلني أنفجر بالبكاء ونحن نصعد السلالم إلى الطابق الثاني، توقف وأعطاني وقتي لأهدأ “لااا مابدي ياكي تبكي، والله حطيت ايديكي ورايي وعم امشي بسرعة حتى ما حدا يشوف الكلبشات، بعرف انه صعبة عليكي وما خرجك هالفوتات بس هانت، بربك ما تبكي، ساعة زمن بتنحل قصتك، والقاضي ابن حلال”. لم أعرف سبب انفجاري، لكن تعاطفه معي وكلماته أخرجت دموع الأسبوع بكامله، ظننت لوهلة أني رأيت عينيه تدمعان، كان رقيق القلب، فرح لفرحي بعد نطق حكم براءتي، هو الوحيد الذي لم أشعر أن حسن معاملته كان بسبب توجيهات أو توصيات، أو خوف من جنسيتي الأوروبية أو مهنتي كصحافية، لم يخرق القانون في شيء ولم يعطني امتيازات تثير بغض الآخرين، كان ببساطة “أخلاقياً”. شكرته ووددت لو كان باستطاعتي عناقه لأعبر عن امتناني قبل أن أغادر مع محاميتي وأصدقائي.
أصحابي: ” قوليلنا شو عبالك تعملي هلأ؟”.
وأنا في المطار وقبل اعتقالي، كنت أقترح على أصدقائي وزملائي في العمل الذهاب لتذوق طبقي ومشروبي المفضل في أحد مطاعم الجميزة، وهو ما لن أفوته أبداً:
بدي صحن كبة نية، وكاس عرق وبعدا حمام مي سخنة وتصبحوا على خير.
آخر القصص
TEST
الاشترا