بين العوامل الثلاثة، الدولي والإقليمي والمحلي، من الواضح بأن العامل الدولي هو العامل الحاسم في المسألة السورية، وعليه يتوقف المضي في طريق الحل أو استمرار الوضع القائم، ليتحوّل إلى واقع قد يفضي إلى زوال سوريا التي نعرفها من على الخارطة، وتحولها إلى ثلاثة كانتونات محمية من قبل الدول الأربع ذات النفوذ/ المحتلة (روسيا وإيران في منطقة سيطرة النظام، الولايات المتحدة في شمالي شرقي سوريا، وتركيا في شمال وشمال غرب سوريا)، وسيبقى الوضع قابلاً للتغيير طالما لم تتمكن هذه الدول من الاتفاق على مناطق النفوذ بصورة نهائية.
من بين المناطق الثلاث، ثمة خطر أكبر على الجغرافية السورية في المنطقة التي تسيطر عليها تركيا، نظراً لاتباع هذه الدولة سياسةً ممنهجة تمهّد لضم هذه المنطقة إليها كأمر واقع، واستناداً إلى تجارب سابقة، كما في شمال قبرص، وقد تحوّل هذا الجزء إلى محمية تركية، ولو أنه غير معترفٍ بها من قبل المجتمع الدولي. لكن تركيا ليست مطلقة الحرية في مسعاها هذا، وتصطدم مخططاتها بإرادتي كل من الولايات المتحدة وروسيا، وهما الدولتان القادرتان على تحديد ملامح سوريا المستقبل، وإن كان دورهما غير متساوٍ، وبأرجحية للدور الأميركي في ما يتعلق بتعطيل أي حل لا يحقق المصالح الأميركية.
لكن، من جهة ثانية، كان الواقع الحالي قد نتج عن صراع معقّد لا دور حاسماً فيه لإرادة السوريين، ولم يأتِ كنتيجةٍ لحرب أهلية واضحة المعالم منذ البداية، كما حدث في يوغسلافيا على سبيل المثال، وقد وضعت حدوده قوى الأمر الواقع على الأرض والدول ذات النفوذ، ولم تفصل هذه الحدود بين مناطق ذات أغلبية قومية أو دينية، وهذا يعطي بعض التفاؤل من أجل إعادة توحيد سوريا وبنائها على أسس جديدة تتمثل بالحل وفق قرارات الشرعية الدولية، وأهمها القرار 2254 لعام 2015، والذي يضمن بقاء سوريا ضمن حدودها الحالية، فهل ثمة مصلحة دولية في ذلك، وما هي الدول الفاعلة في مثل هذا الحل المأمول؟
إن الأمر الأساس في تحقُّق هذا الخيار هو التوافق الأميركي الروسي، الذي ما زال يراوح مكانه منذ عام 2011، ومعه استمرار المأساة السورية بأشكال شتى. لا يعني ذلك أن الإرادتين الأميركية والروسية متعادلتان، ولكنها يمكن أن تتكاملا، فقد أثبتت مجريات الأحداث على أن مَن يحدد المديات التي يمكن أن تصل إليها روسيا في سوريا هي الولايات المتحدة، يشهد على ذلك فشل روسيا في تحقيق أي حل سياسي بالتعاون مع حليفتيها في مؤتمر أستانة، تركيا وإيران، فقد عرقلت أميركا مشروع هذا الحل، من خلال ضغوطها المتعلقة بمنع تمويل إعادة الإعمار وعودة المهجرين من الدول المجاورة، وانتهت الجهود العسكرية الروسية إلى صفر سياسي كبير.
كما تكمن أهمية التوافق الأميركي الروسي في أنه هو القادر على كبح طموحات الطرفين الإقليميين الأكثر تأثيراً في سوريا، تركيا وإيران؛ الأولى بخطرها المتمثل بتتريك الشمال السوري، والثانية بخطرها على المستوى الثقافي الديني، كغطاء لتمددها في المنطقة ككل ومنها سوريا، ولو أن هذه المحاولات الإيرانية للعبث بواقع التعايش السوري ما زالت تصطدم برفض شعبي واسع، بالرغم من كل التسهيلات الممنوحة لها.
فما الذي يمكن أن تقدمه قمة جنيف الحالية (16 يونيو/حزيران 2021) بين الرئيسين الأميركي والروسي بالنسبة لسوريا ومستقبلها؟ الأمر المهم في القمة هو ما أشيع عن أجوائها الإيجابية بصورةٍ عامة، وعن اتفاق الرئيسين على التعاون بشأن المشاكل الإقليمية، وتحديداً أفغانستان وإيران وسوريا.
من خلال التعاون حول سوريا، يأمل السوريون أن يتم الإفراج أخيراً عن الحل السياسي، الذي لا بد وأن يتضمن تنازلات من الطرفين، فالولايات المتحدة هي التي تتحكم بالحل، ويمكن أن تقدم ضمانات لتحقيق المصالح الروسية في سوريا، على الأقل إلى أن يتمكن الشعب السوري من اختيار ممثليه بحرية وقوننة علاقاته مع الدول ذات النفوذ، بحيث يتم الاتفاق على طبيعة الوجود الدولي والإقليمي، حتى لو تطلب الأمر بقاء قواعد عسكرية روسية وأميركية، والتي قد تكون ضرورية في المرحلة الانتقالية لحماية الدولة الناشئة، على أن تتم إعادة الاتفاق حولها، وربما تأجيرها، بدون أن يمس ذلك بالسيادة الوطنية، كما حصل وما يزال بالنسبة للقواعد الأميركية في اليابان وألمانيا. إنه الثمن الذي لا بد من دفعه للخروج من واقع الانقسام الحالي بواسطة رافعة التعاون الأميركي الروسي، إن تمخّض هذا التعاون عن الإفراج عن الحل السياسي النهائي. إن الجدية في مسألة التعاون حول سوريا ستتوضح في كيفية ترجمة الحل عند الدخول في التفاصيل العملية لفريقي التفاوض بهذا الشأن.
إخراج الحل السياسي بهذه الطريقة يشكل صفقة رابحة للجميع، ويمكن تعويض خسارة الطرفين الإقليميين الرئيسين، تركيا وإيران، بحصولهما على حصتيهما من الاستثمار في كعكة إعادة إعمار سوريا، في حال لم تعرقلا الحل السياسي. وهذا يعتمد، بالنسبة لإيران، على نتائج المحادثات حول ملفها النووي وحصول اتفاق يلزمها بتقليص نفوذها وتدخلها في سوريا وغيرها. ومع ذلك، ثمة مخاوف من أن يقتصر التعاون بين الدولتين على القضايا الجزئية، كالملف الإنساني والمعابر، على أهميتها في التفريج عن معاناة السوريين في مختلف المناطق.
وعلى أمل أن لا يطول الوقت كثيراً قبل أن تصحو النخب السورية وتنخرط في عملية التغيير، في ملاقاة لجهود الدول التي تعمل لمصالحها قبل أي أمر آخر، وأن تتنافس هذه النخب على خدمة المصلحة الوطنية السورية من أجل بناء دولة المواطنة والقانون، بعيداً عن كل فسادٍ وإفساد.