ميديا – الناس نيوز ::
المدن – صبا ياسر مدور – لا يمكن تجاهل ميراث العزلة الطويل، في تقييم تفاعل السوريين مع حضور الرئيس أحمد الشرع فعاليات الدورة 80 للأمم المتحدة في نيويورك. هذا التفاعل الذي تضمن مشاعر غابت عن عدة أجيال، واختلط فيها الفخر بالأمل والشعور بالقوة بعد عقود من القهر، من دون إغفال من كان له رأي آخر، يتعلق بضرورة عدم تكرار ظاهرة تمجيد الزعماء، لتلافي ما عرفناه من قبل في تحولهم إلى قوة مستبدة، ما كان لها أن تتسيد لولا مقولة: الزعيم فوق المؤسسات وقبل الدولة.
في واقع الأمر، لم يشهد غالبية السوريين رئيساً لهم يكون مركزاً للزخم الدولي، كما حصل مع الرئيس الشرع في نيويورك. إذ كان الرئيس الراحل نور الدين الأتاسي آخر رئيس سوري يرتقي منصة الأمم المتحدة عام 1967 بعد نكسة حزيران، وقبل أن تنشغل سوريا بعد ذلك بالصراعات الداخلية وانقلاب حافظ الأسد، وبدء عهد الاستبداد الطويل والعزلة الدولية.
وجد السوريون في وقوف الرئيس الشرع على المنصة الأممية تقديراً لما قدموه من تضحيات خلال الثورة أو قبلها في مواجهة الاستبداد. كما أنهم وجدوا في الحضور السوري الأول منذ نحو ستة عقود، قدراً مهماً من الثقة في المستقبل، وتفهم المجتمع الدولي لحاجتهم للمساعدة ورفع العقوبات، والتصدي للمحاولات الإسرائيلية بإثارة الفتنة الداخلية والعمل على نشر الفوضى والتقسيم.
والحقيقة أن الجزء الأهم من التقدير توجه نحو الرئيس الشرع، وجرى التعامل مع الأضواء التي استقطبها، كمحفز عند كثيرين لاعتبار أن النجاح في تخطي المرحلة الصعبة الحالية، بات يرتبط به وبقدرته على إقناع قادة العالم بضرورة مساعدة سوريا.
في واقع الأمر، ذلك صحيح الى حد كبير، فالزعماء يمكن أن يوفروا الكثير من الوقت والجهد، لو نجحوا في تقديم قضايا شعوبهم بشكل صائب وناجح، والعكس صحيح تماماً. لكن في حالة سوريا كما سواها، لن يحصل الزعيم أصلاً على فرصة الحضور العالمي، ما لم يكن هناك تمهيد يجعل منه جديراً وقادراً على هذا الدور.
هذا التمهيد تحقق فعلياً منذ انتصار الثورة وما زال يمضي ويتراكم. بدأ عندما منح الشعب الفرصة والثقة للقيادة الجديدة لإدارة عملية التعافي، وتجلى في مشاركته لأول مرة بالتعبير عن شؤون بلاده الداخلية نقداً، مداولة، قبولاً أو رفضاً. لقد استوعب التحديات، وعظّم النجاحات الصغيرة، وصبر على أخطاء الإدارة متجاوزاً إياها ومنحها الوقت. ولم يتشتت تركيزه عن هدف النجاح، رغم حجم التشويش الهائل الذي دخلت فيه سوريا بعد سقوط الأسد. وكان بعض هذا التشويش كفيلا بفتح الباب لصراعات داخلية أعمق وأخطر قد تطيح بحلم سوريا.
نجاح الرئيس الشرع في الأمم المتحدة، كان نتيجة واضحة المعالم لنجاح ثورة الشعب السوري في تخطي الوقت الصعب، ولولا ذلك، ما كان لأحد أن يتخيل ما حصل، بل أنه من دون تلك الإرادة الشعبية في الصبر على مقارعة الأسد، ربما ما كان أن يكون لسوريا دور في المحفل الأممي، ولكانت فرصة أخرى مضت، وسط غيابها وعزلتها، كما كان يحصل خلال العقود الماضية.
هذه الحقيقة جزء أصيل من تقييم بحث السوريين عن رمزية وطنية يتجمعون حولها، وفي ذلك، هم ليسوا بعيدين عن تجارب شعوب مرت بمحن الحروب والاحتلال، وبعضها عانت كما عانوا، حينما تحلقت خلف قيادات سارت بهم نحو النصر وقادتهم بنجاح في لحظات الارتباك وعدم اليقين. هذا ما حصل مع ديغول في فرنسا وتشرشل في بريطانيا وروزفلت في الولايات المتحدة. لكن الفرنسيين ذاتهم دفعوا ديغول للاستقالة في لحظة تالية، وكذلك فعل البريطانيون مع تشرشل الذي لم يعيدوا انتخابه بعد الحرب، لأن الزعيم هو بما يقدم لشعبه في الأوقات الفاصلة، لا بجعله قدراً مطلقاً يؤخذ منه ولا يرد عليه.
وفي اللحظة الراهنة، يتضح أن للرئيس الشرع دوراً تاريخياً متواصلاً تجاه سوريا، وأن ما قدمه في نيويورك لم يكن سوى جزء صغير من هذا الدور. فما زال أمامه الكثير مما يمكن أن ينجزه، وقد وعد بتنفيذه، وفي مقدمته بناء المؤسسات، ترسيخ دولة القانون، إقامة دولة المواطنة والحرية والعدالة، وإعلاء صوت الشعب. وهذه مجتمعة هي التي ستجعل الدولة أهم من الرجل، وتجعل الشعب مصدر السلطات لا تابعاً لها. وهذا بحد ذاته سيكون منجزاً تاريخياً يتجاوز حدود سوريا إلى المنطقة بأسرها، التي ما زالت أسيرة صورة الزعيم ورمزيته أكثر من أسيرة دوره وما يقدّمه، وصولاً إلى تحديد موعد رحيله السلمي في الوقت المناسب.
شعب سوريا، ليس جديداً على ذلك، فقد كان بعد الاستقلال أكثر شعوب المنطقة تفتحاً ووعياً، ومارس تجربة ديمقراطية متقدمة بمقاييس عصرها ومنطقتها، سواء في دستور 1920 الذي قضى عليه الاحتلال الفرنسي، أو التجربة البرلمانية الناضجة بعد الاستقلال عام 1946، التي لم تستمر بسبب الانقلابات المتكررة والمراهقة السياسية للمغامرين وطالبي السلطة وصولاً إلى حكم عائلة الأسد.
مثل هذا الميراث جدير بالاستعادة. وهناك اليوم فرصة عظيمة لذلك. فالشعوب التي تحقق أقدارها بنفسها، ولا تنتظر أحداً من الخارج يحقق لها مرادها، وتستطيع أن تصوغ خياراتها. وهو ما يدركه الرئيس الشرع، ومن المقدر أن يتعامل معه كحقيقة تاريخية، تنتظر أيضاً أن يسهم السوريون بها، بجعل الدولة قبل الزعيم أياً كان.


الأكثر شعبية

بيرلا حرب ملكة جمال لبنان 2025


اليمن بين خلافات الداخل وضغوط الخارج
