ميديا – الناس نيوز ::
رووداو ديجيتال – فيصل يوسف – جاء رفع العقوبات عن الرئيس الانتقالي السيد أحمد الشرع، ووزير الداخلية أنس خطاب، بموجب قرار مجلس الأمن 2799، خطوة ذات دلالة في مقاربة المجتمع الدولي للملف السوري. فالقرار لا يمكن النظر إليه باعتباره مجرد إجراء تقني، بل بوصفه رسالة سياسية واضحة مفادها أن أبواب التعاون لا تزال مفتوحة أمام الإدارة الانتقالية، شرط أن تقترن هذه الانفتاحات بإصلاحات ملموسة وتطوير للعلاقة مع المحيطين الإقليمي والدولي ومحاربة الارهاب. لكن تحويل هذه الخطوة إلى فرصة سياسية حقيقية يتوقف قبل كل شيء على قدرة الحكومة المؤقتة على استعادة الثقة داخلياً، وعلى تأكيد أن مسار الحل يبدأ من السوريين أنفسهم، لا من توافقات الخارج.
القرارات الدولية
تتقاطع هذه التطورات مع القرارات الدولية ذات الصلة، وعلى رأسها القرار 2254 الذي شكّل منذ عام 2015 أول توافق دولي حول خريطة طريق واضحة تقوم على وقف شامل لإطلاق النار، ثم عملية انتقال سياسي تفضي إلى دستور جديد وانتخابات حرة بإشراف الأمم المتحدة. غير أنّ التطبيق العملي لهذا القرار تعثّر بفعل مماطلة النظام السابق والتهرب من تطبيقه، والذي تعامل مع أي تغيير بوصفه تهديداً لسلطته، وبفعل انقسامات المعارضة التي وقعت تحت تأثير التجاذبات الإقليمية والدولية. وهكذا تحولت سوريا إلى ساحة صراع مفتوح، وضاعت تطلعات شعبها وسط تضارب المصالح، إلى أن سقط النظام في نهاية العام الماضي، بعد سنوات من الاستنزاف الوطني وتدمير البلاد.
وبعد نحو عام على تولّي الإدارة الانتقالية زمام الأمور، جاء القرار 2799 بتاريخ السادس من تشرين الثاني الجاري لتعزيز القرار 2254 ولا يلغيه. فإدراج الملف السوري ضمن أحكام الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة منح العملية السياسية بُعداً إلزامياً أكبر، وفتح المجال أمام أدوات ضغط أشدّ، من العقوبات وحتى الإجراءات الصارمة عند الضرورة. وهذا التطور يحمل دلالتين متوازيتين من جهة، تحذير دولي من مخاطر التردد أو نهج إدارة الأزمة، ومن جهة أخرى إتاحة فرصة لاختبار قدرة الحكومة الانتقالية على إدارة المرحلة بمسؤولية، ومساعدتها وتقديم نموذج مختلف عمّا كان قائماً خلال عقود.
مع ذلك، ينبغي عدم النظر إلى مسار القرارات الدولية بوصفه تهديداً للسيادة، مثلما يعتقد بذلك بعض القوى والشخصيات الوطنية، بل بوصفه دافعاً لتسريع الإصلاحات وتحصين الجبهة الداخلية. فكلما تعزّزت الثقة بين المكوّنات السورية وتعمّقت الشراكة الوطنية، تراجعت فرص التدخلات الخارجية وتقدّمت الأولوية الوطنية على حساب الأجندات الإقليمية والدولية المتصارعة. إن حماية السيادة يبدأ من الداخل، من قدرة السوريين على إنتاج قرار وطني مستقلّ يقوم على توافق سياسي واسع يشمل كل القوى السورية لا على اصطفافات ومحاور متناحرة وحكومة وحدة وطنية بصلاحيات واسعة.
“الحلول المؤقتة لا تنتج استقراراً”لقد أثبتت التجربة القاسية والمريرة، خلال عقود حكم النظام السابق أن الحلول المؤقتة لا تُنتج استقراراً، وأنّ أي عملية سياسية لا تمنح الشعب دوراً حقيقياً ستبقى قاصرة ومعطوبة. المطلوب اليوم انتقال سياسي شامل يشارك فيه جميع السوريين دون استثناء، يقوم على نظام ديمقراطي تعددي يعكس البنية الاجتماعية السورية، باعتبارها متعددة القوميات والأديان، ويقطع مع سياسات الإقصاء والتهميش التي ساهمت في تفجير الاحتجاجات السلمية في بدايات الثورة السورية السلمية.
يظل جوهر القرار 2254 هو مشروع الحل، لأنه يستند إلى شراكة وطنية وإلى انتقال سلمي للسلطة عبر عملية سياسية واضحة تؤدي إلى دستور جديد وانتخابات نزيهة بالتوازي مع مكافحة الإرهاب. لكن التحدي الأكبر لا يكمن في نصوص القرارات الدولية، بل في الإرادة الوطنية القادرة على تنفيذها وتحويلها إلى مسار واقعي. وهنا يبرز السؤال المحوري هل آن الأوان لاستعادة زمام المبادرة إلى الشعب السوري؟
الموقف الكوردي
في هذا السياق، تبرز أهمية وحدة الموقف الكوردي التي عبّر عنها كونفرانس وحدة الصف والموقف الكوردي، والتوافقات التي حملها بشأن هوية الدولة المستقبلية وضمان حقوق الشعب الكوردي وحلّ قضيته الوطنية ضمن سوريا موحّدة. فهذا التفاهم لم يعد شأناً كوردياً صرفاً، بل تحول إلى عنصر حاسم في نجاح أي مشروع وطني، لأنّ الشراكة المتوازنة بين جميع المكوّنات هي الضمانة الأهم للاستقرار السياسي والاجتماعي. إن بناء دولة حديثة لن يكون ممكناً دون معالجة عادلة للقضية الكوردية، ودون توافق وطني يعترف بالتعددية بوصفها مصدر قوة لا تهديد.
لقد أثبتت التجارب السابقة أن تأجيل الإصلاح وانتظار التسويات الخارجية – كما فعل النظام السابق حين جعل البلاد رهينة للمصالح الإقليمية والدولية – يضعف ثقة السوريين بعضهم ببعض، ويفتح الباب واسعاً أمام مزيد من التدويل. ومن هنا تأتي ضرورة إطلاق مبادرة وطنية جامعة تقودها الإدارة الانتقالية، وتشارك فيها كل القوى السياسية والمدنية، بهدف صياغة خريطة طريق داخلية تنطلق من القرار 2254، ولكن بآلية تنفيذ وطنية تعبّر عن الإرادة السورية، وتمنح القرار السياسي شرعيته من تأييد الشعب ودعمه.
القرار الوطني
إن امتلاك القرار الوطني لا يعني الانعزال أو القطيعة مع العالم، بل يعني أن تنبع المبادرة من الداخل، وأن يكون التعاون الخارجي مكمّلاً لا بديلاً عن الإرادة الوطنية. فالحوار المتكافئ مع المجتمع الدولي ضروري لحماية الاستقرار وبناء الدولة، لكنه يكتسب معناه الحقيقي حين يستند إلى موقف داخلي موحّد يحدد مصالح السوريين ويحفظ أولوياتهم.
يحمل القرار 2799 في أحد وجهيه احتمالاً لمزيد من التدويل، وفي الوجه الآخر فرصة لإعادة بناء الدولة على أسس جديدة. وقيادة المرحلة بثقة، والمباشرة بإصلاحات عبر خطة زمنية يشعر بها المواطن وتحويلها إلى واقع ملموس، وخلق بيئة سياسية جديدة تعيد تعريف علاقة السوريين بدولتهم وهوية جامعة لكل السوريين بمختلف انتماءاتهم القومية والدينية.
سوريا اليوم تقف عند محطة مهمة ومفصلية، وهي أحوج ما تكون إلى مشروع وطني واضح يضمن انتقالاً سياسياً مستداماً، جوهرها أن يكون القرار وطنياً ينطلق من مصلحة الشعب أولاً، وأن يكون السوريون شركاء حقيقيين في صناعة مستقبلهم وبناء دولتهم الجديدة.
إن استثمار هذه اللحظة المفصلية يتطلب رؤية وطنية تتجاوز الحسابات الضيقة، وصياغة دستور دائم ، يقوم على دولة مدنية ديمقراطية لامركزية، تكون فيها جميع القوميات والأديان شركاء متساوين في الحقوق والواجبات.




