د . منير شحود – الناس نيوز ::
السردية السورية عمرها مئة عام ولا جديد يُذكر، ولم تتوقف التجاذبات والتحزبات والعصبيات والشلل عن التعبير عن نفسها طوال تاريخ سوريا، بالعلن أو بالسر، وغالباً بما لا يخدم ترسيخ ونضج هذا “الوليد القلق” ومأسسته وتحوله إلى دولة للجميع، التي هي دولة القانون بالطبع. إن كياناً يحتوي على كل هذا التنوع الجغرافي والبشري يجدر به أن يكون عظيماً ومزدهراً ومتطوراً، من خلال سياسات تستوعبه وتحوله إلى وطن نهائي، وهذا لم يحصل لأسباب كثيرة.
فبغياب سياسات رشيدة وبسبب إلغاء فرص التعبير عن الرأي، كمنت العصبيات في مخابئها وصار تعايشها قلقاً، واختمرت في مناخ الخوف والحذر والشك والتمييز، وصولاً لانفجارها من حين لآخر، وكان آخرها وأعظمها ما حدث في عام 2011. وفي كل مرة كان سوريون يتبادلون التهم، المحقة منها والمتجنية، وتضيق مساحة الرؤيا والآراء الوسطية، فالحرب لا تكون بالسلاح فقط.
في ظروف الانتفاضة الشعبية الأخيرة، قبل أن تتحول إلى حرب، اتجهت الأنظار إلى النخب المثقفة لمعرفة رأيها ومطالبتها بموقف أخلاقي ضد القمع، وهذا أضعف الإيمان، فلا حجة بالفعل لمثقف لا يناصر انتفاضة شعبية ضد الاستبداد. أما من الناحية السياسية، فمن حق المثقف أن يتجنب المواقف الشعبوية ويفكر بهدوء، فقد عانينا من كثرة هذه المواقف التي ساهمت في ابتعادنا عن اجتراح الحلول الوطنية المبنية على معطيات واقعية وبناءة.
بكلام آخر، قاد فشل المعارضة سياسياً إلى اليأس وطغيان الشعبوية، وتحول الكثير من السياسيين وبعض المبدعين، كالفنانين والأدباء، إلى تبني مواقف مساندة للحراك الشعبي، ولكن تغلب عليها الانفعالات، واعتكف البعض الآخر عن التعبير أو المشاركة، وانتظر فريق ثالث مآلات الأحداث لتبرير صمتهم في البدايات. وكانت المعاناة من عسف السلطة قد جمعت معظم هؤلاء الذين تعرضوا للتنكيل أو السجن، بينما اختار عديدون منهم طريق الهجرة والشتات.
في هذه الأجواء أيضاً، برزت ظاهرة “الاصطياد في الماء العكر”، من قبل أنصاف مثقفين استخدموا أدوات عرقية وطائفية لاستثارة العواطف والمظلوميات وشيطنة مبدعين سوريين بحجج واهية، ولدوافع عصبوية. تكررت هذه الظاهرة في أثناء حياة المبدعين أو بعد موتهم بما يشبه نبش القبور، وبعيداً عن نقد المواقف وتصويبها، وتم البحث في “كومة” أعمالهم عن إشارات لتضخيمها واستغلالها.
هذا لا يعني بأن المبدعين منزهين أو ليس لدى بعضهم سقطات من هذا النوع، لكن الذين يوجهون اتهاماتهم إلى هؤلاء ينطلقون من مواقف غير بريئة ولديهم فائض من العصبيات التي يكون اتهام الآخرين بها أو تضخيمها من مبدأ أن أفضل وسيلة للدفاع هي الهجوم. فالعصبية تبحث دوماً عن عصبية مقابلة ومن الطبيعة ذاتها، ولكن مع اختلاف اللون، ولا بد من إيجاد هذه العصبية المقابلة وتنميتها والعناية بها حتى يُمكن الإشارة إليها بالبنان ومواجهتها.
لا يوجد منتصر في حروب العصبيات، ومنها الحرب الطائفية، لأن النصر لأي طرف يعني هزيمة طرفيها وانتهاء اللعبة بالنتيجة صفر – صفر. وتحافظ العصبيات على نفسها من الاندثار من خلال استجداء مستمر لعصبية مقابلة، فوجود العملة مرهون باستمرار بريق وجهيها، وكلما ازدادت ردة فعل العصبية المقابلة، كلما حققت العصبية الأولى غايتها. وفي لعبة الفعل وردة الفعل هذه، يخسر المحرِّض حين تكون الاستجابة له بالصمت والإهمال. ومع ذلك، ثمة منتصر في هذه الحرب من خارجها، وهو الطرف الذي يحسن استغلال العصبيات وانتهاز الفرصة من أجل السيطرة على الجميع، وهذه ما يفعله الاستبداد، المستفيد الوحيد من صراعاتها.
تنام العصبيات وتستيقظ عند كل حدث جلل، ولا يُستثنى من ذلك الموت، وتفضل في حالات الهدنة استهداف شخصيات معروفة وذات رمزية لجماعاتها أو لوطنها وذات بعد إنساني غالباً، وكلما كانت الشخصية أهم كلما كانت شيطنتها وإثارة الغرائز حولها ذات أهمية أكبر. وحين يتهم صاحب العصبية الطائفية الآخر بأنه طائفي، فهو لا يريد أن يرى فيه غير ذلك، وتكون شيطنته تمهيداً لقتله معنوياً، ومادياً حين تسنح الفرصة وتأتي الرصاصة لتحل مكان القلم، وهذا ما يفعله عصابيون قتلة ينتظرون دورهم بفارغ الصبر.
من حق الجميع أن يعبروا عن مواقفهم، لكن طريقة التعبير تختلف بين سياسي ومفكر وفنان، فقد جلبت بعض المواقف السياسية المتعالية من قبل مفكرين، كأدونيس، الكثير من الانتقادات المحقة وغير المحقة، إذ يجدر بالمبدعين أن يحافظوا على مسافة كافية من السياسيين، نظراً للبعد الإنساني لإنتاجهم وعدم خضوعه للتصنيف الأيديولوجي المبسط. فالأدباء، مثلاً، لديهم القدرة على جعل القراء، على اختلافهم، يتجاوبون مع خصوصيات الكاتب وكأنه يتحدث عن همومهم وعواطفهم هم، فيدفعهم لمشاركته حالته الشعورية، كمشترك إنساني.
تعتاش العصبيات الاجتماعية على المظلوميات، ومن خلال الأخيرة يمكن أن تثير الذكريات والشجون كموجات يصعب حصرها والسيطرة عليها، وهذا ما يحدث في سوريا الحالية بين مظلوميات سابقة، يحاول البعض استعادتها، ومظلوميات معاصرة يجري التعبير عنها من واقع الحال. ويبقى الأمل معقوداً على أولئك الذين يعملون على الخروج من هذه الحلقة المعيبة نحو فضاءات مفتوحة على حلول خلاقة ومبتكرة تقطع الطريق على مثيري الفتن والغرائز والعصبيات مرة واحدة.

