رند حداد – الناس نيوز ::
“في نهاية العهد الرابع من القرن العشرين، وبعد سنوات قليلة من ترميم فندق الأورينت بالاس، إثر الدمار الكبير الذي لحق به في أعقاب العدوان الفرنسي على مدينة دمشق يوم 29 أيار 1945، دعت إدارته إلى حفل موسيقي بعنوان “فنتازيا دمشق”، أقيم في “القاعة الزجاجية.”
جاء في بطاقة الدعوة أن الحفل سيكون تكريماً لتضحيات العاصمة السورية ووقوفها في وجه المستعمر الفرنسي، وستُعزف فيه مقطوعة من تأليف المايسترو الروسي “البارون بيلينغ”، ترافقه عزفاً على البيانو طالبته السورية نجلاء عيسى.

كان حلمه أن تُعزف المقطوعة من قبل أوركسترا كبيرة في إحدى دور الأوبرا العالمية، ولكن نظراً لعدم توافر ذلك، اقتصر العمل على آلتين، البيانو والكمان. حضر جمع من محبي الموسيقى الكلاسيكية إلى الأورينت بالاس، وفي “القاعة الزجاجية” وقفوا وصفقوا طويلاً للبارون بيلينغ، نزيل دمشق منذ عشرينيات القرن العشرين، الذي لولاه لما دخلت الآلات الموسيقية الغربية إلى المجتمع الموسيقي السوري.”
بهذه العبارات، يعيدنا المؤرخ السوري الدمشقي سامي مروان مبيّض إلى أربعينيات القرن العشرين، يوم كانت مدينة دمشق محجاً للفنانين والعازفين والموسيقيين.
يضيف مبيّض أنه، ونظراً لنجاح هذا الحفل، دعت إدارة الأورينت بالاس عازفة البيانو اللبنانية ديانا تقي الدين إلى إقامة حفل مماثل في القاعة الزجاجية يوم 20 تشرين الأول 1954، وبعدها بعام احتفلت سورية بالذكرى المئوية الثانية لميلاد موزارت، بأمسية موسيقية (ريسيتال) في مدرسة اللاييك عزفت خلالها الفنانة النمساوية ليزل ساباتين بوير على البيانو يوم 5 كانون الأول 1955. وفي سنة 1956 جاءت عازفة البيانو اللبنانية سامية حداد لتقيم حفل موسيقى كلاسيكية في نادي الضباط، كان برعاية الرئيس شكري القوتلي.
“على أطراف الذاكرة” كتاب جديد صدر عن دار رياض الريّس في لبنان، الذي غيّب الموت صاحبه قبل خمس سنوات، وكم كان سيُسعد به لأنه يحكي عن مدينةٍ، خطّ معالم حياتها الثقافية والسياسية والده الراحل، الصحفي الكبير نجيب الريس.

يقدّم مبيّض عملاً غير مسبوق في مجال التأريخ الاجتماعي والثقافي لمدينة دمشق في السنوات 1946-1963، من جلاء المستعمر الفرنسي حتى وصول “البعث” إلى الحكم. لا يقدّم مجرّد سرد تاريخيّ وتقليدي، بل يُحيي مدينة كاملة كانت تعجّ بالحياة، بالحفلات والموسيقى والمقاهي والسينما والبورجوازية المتحرّكة بين ساحة المرجة وشارع أبو رمانة. دمشقُ تلك ليست خيالاً بل حقيقة موثقة، تنبع من مئات الوثائق والشهادات والمقالات المؤرشفة، ترويها ذاكرة ما زالت حيّة في زوايا دمشق، وفي قلوب من عاشوا تلك الفتر. ولا يكتفي الكتاب برسم صورة دقيقة لدمشق، بل يشكّل أيضاً وثيقةً سياسية جريئة تُستعاد فيها الذاكرة الوطنية المسلوبة.
يأتي هذا الكتاب في لحظة مفصلية، بعد سقوط نظام بشار الأسد في نهاية عام 2024، وفي ظلّ شلالات من الدماء، تسيل في مدينة السويداء جنوب سورية. هذه الأحداث التاريخية الكبرى التي نعيشها اليوم تضفي على الكتاب بُعداً خاصاً، حيث تنفس المؤلف – ولأول مرة – حرية الكتابة الكاملة بلا رقابة أمنية أو ذاتية، حسب ما جاء في المقدمة.

تأريخ مضاد
على خلاف الكتب التاريخية التي اعتادت الحديث عن الانقلابات العسكرية والأحزاب السياسية في تلك المرحلة، يقدّم مبيّض سردية مختلفة تنبع من قلب المجتمع المدني، ومن تجارب أشخاص عاديين، لم يعملوا في السياسية، كمصممة أزياء فرنسية مثلاً، عاشت في دمشق، أو صانع حلوة، أو رسّام إيطالي جاءها بحثاً عن فرص عمل في صحفها المتنوعة.
يُعيد الكتاب بناء ملامح الحياة اليومية، والتنوع الثقافي، مستنداً إلى الصحف المحلية، والكثير من المقابلات الشفوية، وبعض الوثائق التي تنشر للمرة الأولى. وفي كل فصل، ينبش الكاتب تفاصيل مذهلة عن دمشق الأربعينيات والخمسينيات وبدايات الستينيات، فيسرد نشأة ساحة الأمويين، والمعرض الدولي، مع تأسيس المصارف أو شبكة الهاتف الآلي، وافتتاح صالات السينما والنوادي.
يحكي عن دور النشر الدمشقية التي سعت لمنافسة الدور اللبنانية والمصرية، وكيف كانت تقدم جوائز للأدباء الشباب، وكيف احتفلت بنزار قباني، الشاعر الأكثر مبيعاً في حينها. كل ذلك يأتي بلغة سلسة وأسلوب روائي دقيق، يجعل القارئ لا يكتفي بالمتابعة، بل يُفاجأ بكمّ الحيوية التي كانت تحيا بها دمشق، وسط اضطراب سياسي لم يمنع بناء الدولة والمجتمع معاً.

قوائم النشاطات الثقافية
من أعظم إسهامات هذا الكتاب، هي القوائم التفصيلية التي يوردها الكتاب في نهاية كل فصل، حول المحاضرات الثقافية، والمعارض الفنية، والحفلات الموسيقية، والعروض المسرحية التي شهدتها دمشق.
نرى كيف حاضر طه حسين في نوادي دمشق، وكيف عزف كوينسي جونز على خشبة المعرض، وكيف استُقبل إيليا أبو ماضي، وميخائل نعيمة، ومحمد عبد الوهاب، وأم كلثوم، وفيروز، ووديع الصافي. في هذه البيانات، التي تشمل تنظيم62 عرضاً مسرحياً، و105 محاضرات ثقافية، و40 معرضاً فنياً، و110 حفلات موسيقية. هذا الجهد الفريد لا يمنحنا فقط مادة إحصائية، بل يُعطي بُعداً ملموساً لما كانت عليه سورية ما قبل البعث، ويُثبت، بالأرقام والأسماء والتواريخ، أن ما جرى بعد عام 1963 لم يكن سوى نكوصاً عن مسار الحضارة والثقافة والتمدن الأصيل، رغم الانقلابات العسكرية والمحيط الإقليمي المشتعل.
الذاكرة كأداة استمرارية .
يستخدم مبيّض مدينة دمشق كمجهر لفهم سورية ككل، ومن خلال التفاصيل اليومية للمسرح والسينما، ومشاريع “أمانة العاصمة،” والصحافة، ورجال الاقتصاد، يُعيد صياغة المدينة بصفتها مركزاً للتنوير، قبل مجيء ( نظام الأسد ) “البعث” ليقضي على كل ذلك. إن استعادة هذه الذاكرة ليست حنيناً فقط، بل هي فعل استمرارية معرفية، ومساهمة أساسية في إعادة تعريف الهوية السورية في مرحلة ما بعد نظام الأسد المتوارث .
فحين يُظهر الكاتب كيف كان المجتمع السوري متقدّماً في جوانب الحوكمة، والحريات، والفنون، فإنما يدحض سرديات “الاستقرار البعثي” الزائف، ويؤسّس لوعي جمعي جديد وضروري لأي إعادة بناء وطني.
يُعيد مبيّض الاعتبار للأشخاص، والأمكنة، والأنظمة الاجتماعية التي دمّرها الاستبداد، لا من باب النوستالجيا، بل من باب الضرورة السياسية لبناء مستقبل لا يبدأ من العدم، بل من الذاكرة المغيبة التي أطفئ نورها ( نظام الأسد ) “البعث.”
هو ليس كتابًا عن الماضي فقط، بل عن المستقبل الممكن لدمشق بالخصوص، ولسورية بالعموم.



الأكثر شعبية

خارطة طريق غاز ونفط سوريا… من الدمار إلى الإعمار؟


دمشق بين زيارتين …
