ميديا – الناس نيوز ::
العربي الجديد – سمير سعيفان – اللقاء الذي شاهدته مع مروان حبش، الذي كان قياديًا في حزب البعث بين شباط 1966 وتشرين الثاني 1970، أثار في ذهني موضوع القيادات الشابة التي تسنمت السلطة بعد انقلاب 8 آذار 1963 ومقارنتها مع القيادات الشابة التي تسنمت السلطة بعد 8 كانون الأول 2024 والشروط المحيطة ومقارنة البدايات خلال التاريخين وآثار ذلك.
وأنا لا أساوي هنا بين السلطتين، ولكن أقارن لاستخلاص الدروس.
السيد حبش كان عمره 25 عامًا (من مواليد 1938) حين استولى البعث على السلطة بعد انقلاب آذار 1963. وبعد الانقلاب الداخلي في 23 شباط 1966 وإزاحة القيادة التاريخية المخضرمة لحزب البعث، حيث استولت قيادات شابة على السلطة، أصبح حبش عضوًا في القيادة القومية، ورئيس اللجنة الاقتصادية، ووزير القرى الأمامية ثم وزيرًا للصناعة، وهو مثال على قيادات شابة تسنمت السلطة، فصلاح جديد القيادي الأبرز كان الأكبر سنًا 37 عامًا، وهو من مواليد 1926، وكان عمر حافظ أسد 33 عامًا، وهو من مواليد 1930. أي تسنّم القيادتين القومية والقطرية والوزارات وإدارات مؤسسات الدولة المختلفة مجموعة من الشباب، وغالبيتهم من أصول ريفية أو مدينية فقيرة، ولا يتمتعون بخبرة في إدارة هذه المؤسسات، وفي قيادة الدولة والمجتمع بموضوعاته المركبة وعلائقه المعقدة، ولكنهم يتمتعون ببعض الخبرة في العمل الحزبي، ولهم رؤية أيديولوجية “اشتراكية” لها سمات عامة غير محددة بدقة، ويتجهون في سياساتهم الخارجية اتجاهًا معاديًا للغرب الرأسمالي، وصديقًا للمعسكر الاشتراكي آنذاك، الذي هبّ لمساعدتهم في إدارة الدولة السورية.
في المقابل، نجد أن غرفة “ردع العدوان” بقيادة هيئة تحرير الشام استولت، بعد 8 كانون الأول 2024، على السلطة، وجرى شيء مشابه لما جرى في بعد انقلاب آذار 1963، حيث قامت السلطة الجديدة بإزاحة جميع قيادات الدولة ومؤسساتها، ووضعت مكانهم شبابًا لا يمتلكون الخبرة في إدارة هذه المؤسسات، وتولت قيادة المجتمع بموضوعاته المركبة وعلائقه المعقدة، ولهم رؤية أيديولوجية “دينية” متشددة تحاول أن تكون معتدلة، ولديها قوالب جاهزة موروثة لمحاكمة الأشياء، ويتجهون في سياساتهم الخارجية اتجاهًا ينحو نحو تصفير المشاكل مع جميع القوى الدولية والإقليمية، بما يساعدهم في تثبيت سلطتهم. وقد هبت بعض دول الخليج، وخاصة قطر والسعودية، لمساعدة السلطة الجديدة ودعمها، وتلعب تركيا دورًا فاعلًا مباشرًا في دعم هذه السلطة.

ثمة فرق كبير في الظروف السائدة في سورية، بين 1963 و 2024، فبينما كانت الأوضاع في سورية هادئة سنة 1963، ولا يوجد صراعات داخلية مناطقية، والاقتصاد السوري يعمل بشكل طبيعي إلى حد ما، رغم صدمة التأميم الذي وضع بيد القادة الجدد قدرات مادية كبيرة، وكان معظم الناس مشغولين بهمومهم العامة عن شؤون السياسة بعد أن دجّنَتْ فترة الوحدة مع عبد الناصر المجتمع السوري، وكانت وسائل الإعلام تحت سيطرة حكومية كاملة؛ فإن سورية سنة 2024 كانت قد خرجت للتو مدمرةً من حرب استمرت 14 عامًا، أتت على قدراتها الاقتصادية والبشرية، وكانت ترزح تحت عقوبات دولية تعرقل إعادة إعمارها، وورثت هذه السلطة انقسامًا مجتمعيًا كبيرًا، مع عدم السيطرة على جزء كبير من الأراضي السورية، ولا تملك الحكومة إمكانيات مادية تذكر لتقوم بأفعال تكسبها سمعة حسنة، وأصبح جميع السوريين مزودين بهواتف ذكية تنقل لهم أدق الأخبار بالصوت والصورة، من مصادر محلية وخارجية، بحيث يصعب إخفاء أي شيء، مما يجعل إدارة المجتمع أكثر صعوبة بكثير.
ثمة فارق آخر، وهو أن جماعة انقلاب البعث 1963 قد أزاحوا الطبقة العليا من قيادات الدولة ومؤسساتها، وهم بضعة مئات، وأحلوا محلهم أعضاء ينتمون إلى حزب البعث، ولكنهم حافظوا على بقية كوادر مؤسسات الدولة، وهي الكوادر التي تدير عمليًا إدارات الدولة ومؤسساتها، مؤسسة الجيش والشرطة وكوادر وزارات الدولة وكوادر المحافظات وغيرها، فبقيت الحياة العامة تسير بدون تغيير يذكر. وقد سعى البعثيون “لتبعيث” كوادر الدولة عبر دفعهم للانتساب إلى حزب البعث، وهو الأمر الذي نجحوا فيه بالأرياف ولم يحققوا نجاحًا يذكر في المدن إلا بعد سنوات، وخاصة المدن الكبرى.
أما السلطة الجديدة، فقد أرادت أن تستأصل وتجتث كلّ ما له علاقة بالسلطة القديمة، ويبدو أنها واقعة تحت تأثير ما جرى في مصر وتونس، بأن بقاء المؤسسة العسكرية ومؤسسات الدولة على بكادراتها السابقة أدّى إلى إزاحة السلطة الجديدة في مصر وإعادة السلطة السابقة بشخصيات جديدة. وبالغت السلطة الحالية في تسريح كامل المؤسسة العسكرية والأمنية والشرطية، إضافة إلى عشرات آلاف العاملين في مؤسسات الدولة المدنية والاقتصادية، فرمت إلى رصيف البطالة مئات الآلاف ممن باتوا عاطلين عن العمل، وأحلت محل جزء كبير منهم موظفين جددًا جاءت بهم من الريف أيضًا، وغالبًا من ريف إدلب، ليتسنموا مهامًا ليس لهم خبرة بها، مما أدى إلى تعطيل عدد من جوانب الحياة العامة لشهور عديدة، مثل السجل المدني وخدمات الشرطة وسجلات السيارات والآليات والسجل العقاري وغيرها، إلى أن بدأت تتدبر إعادة تفعيلها.
الاضطراب وبعض الفوضى والضياع في إدارات الشأن العام، هي السمات المشتركة بين البدايتين، فسلطة البعث قامت بالتأميم وسيطرت على الجزء الأكبر من الاقتصاد الخاص، فأصبحت مؤسسات الدولة تدير العديد من الشركات الصناعية والتجارية والزراعية وشركات النقل إضافة إلى شركات النفط والغاز وتجارته وإنتاج الكهرباء وتوزيعه وتوسيع خدمات التعليم والصحة وغيرها، والتضييق على الاستثمار الخاص، فتضخمت أجهزة الدولة، وتضخمت مهامها، وتضاعفت أعداد العاملين في مؤسسات القطاع العام، في حين تنحو السلطة الحالية نحو تخفيف مهام الدولة، وتعلن عن توجهها للتخلي عن مؤسسات القطاع العام “الخصخصة”، وانتهاج نهج اقتصاد السوق الحر الذي يعتمد على القطاع الخاص والانفتاح الواسع على الاستثمار السوري وغير السوري.
جاء انقلاب البعث في فترة صعود أفكار العدالة الاجتماعية بعد الحرب العالمية الثانية، وأفكار التحرر الوطني، وصعود المعسكر الاشتراكي، فكانت أيديولوجية سلطة البعث تقوم على تحقيق العدالة الاجتماعية بفهم ريفي، وقدمت تلك السلطة نفسها كسلطة العمال والفلاحين وصغار الكسبة والمثقفين الثوريين، وقامت بتأميم الشركات الخاصة ومصادرة الملكيات الكبيرة للأراضي وتوزيع جزئها الأكبر على الفلاحين، وقيّدت نشاط القطاع الخاص والاستثمار المحلي والأجنبي، واتبعت سياسات متعددة بقصد تعزيز توزيع الدخل لصالح الفئات الفقيرة. ولكن سارت الرياح بما لا تشتهي السفن.
بينما جاءت سيطرة هيئة تحرير الشام وحلفائها، في فترة تراجع الفكر الاشتراكي وأفكار العدالة الاجتماعية، وبالمقابل سيطرة الفكر الليبرالي الداعي لاقتصاد السوق الحر ومنح رأس المال كلّ المزايا، ضمن مقولة “تكبير الكعكة”، و”تنحيف الدولة”، وتتبنى السلطة الجديدة أيديولوجيا دينية، وتستعمل لغة دينية مخففة، وتعلن اتباعها لاقتصاد السوق الحر الليبرالي الذي يمنح كل المزايا للقطاع الخاص، بمختلف أشكاله وحجومه، والانفتاح التام أمام الاستثمار الأجنبي، ولا تتردد في خطاب السلطة الحالية أصداء “العدالة الاجتماعية” وعدالة توزيع الدخول، وهو ما تحتاج إلى استدراكه.
تتشابه السلطتان في سعيهما لإحكام السيطرة على السلطة والسلاح، وتعطيل أي قدرة على القيام بأي انقلاب مضاد، والإمساك بالسلطة لسنوات عديدة، فقد استطاعت السلطة الانقلابية 1963 أن تقوم بذلك بسهولة، في مجتمع تراجع اهتمامه بالسياسة خلال عهد الوحدة مع مصر، حيث تمكّنوا من حل الأحزاب والسيطرة على الإعلام المحدود آنذاك، والسيطرة على المجتمع المدني والحياة العامة. بالمقابل تواجه السلطة الحالية صعوبات جمة، فقد حلّت جميع الأحزاب من جهة، ولكنها أنشأت الهيئة السياسية وأتبعتها لوزارة الخارجية، وأوكلت للهيئة مهام تشبه مهام حزب البعث، غير أنها تواجه ضغوطًا من أجل توسيع الحريات العامة، وتجد صعوبة كبيرة في السيطرة على وسائل الإعلام، ولا سيما أدوات الإعلام الحديث، مع توفر الإنترنت وانتشار وسائط التواصل الاجتماعي والأقنية الفضائية.
تتشابه السلطتان في أنهما أثارتا موجة من الحراك المجتمعي القائم على أساس مذهبي، فسلطة البعث التي نحت نحو تركيز السلطة بيد عائلة الأسد التي أحاطت نفسها بأبناء الطائفة العلوية، كونها تعلم أن المجتمع السوري، رغم تسامحه ورغم أن السمة السائدة آنذاك هي الانتماء السياسي الذي يتجاوز الأديان والمذاهب والقوميات، لا يهضم أن يكون الرئيس السوري من غير الأغلبية السنية، وأن جزء من الرأسمال السوري، حتى الليبرالي منه، اتجه، من منطلق مصلحي، لدعم الإخوان المسلمين في صراعه مع السلطة الجديدة، وقد استعمل الإخوان المسلمون الخطاب المذهبي في التحريض على نظام البعث منذ ستينيات القرن العشرين، وتزايد في النصف الثاني من السبعينيات، مع تراجع الفكر القومي واليساري ونموّ موجة التدين في المنطقة، وانتهى الأمر بصِدامٍ دامٍ، وكانت مجزرة حماة شباط 1982 آخر معاركه، ثم سعى بعدها الأسد لاسترضاء السنّة، بأن ترك لهم النشاط في المجتمع، فتضاعف عدد المساجد، وأسّس معاهدَ حافظ أسد لتحفيظ القرآن الكريم، وسمح بنشاط القبيسيات، وأبرز مجموعةً من رجال الدين المسبّحين بحمده وغيرها. أما السلطة الحالية فقد ورثت مجتمعًا مزقته الحرب التي اتخذت طابعًا مذهبيًا فاقعًا، وخاصة مع مساعي النظام وإيران لدفعها بهذا المنحى، ثم جاء التدخل الخارجي والمال الخليجي ليصب في الاتجاه ذاته. وتنتصب أمام السلطة الجديدة مهمة صعبة لإعادة لُحمة المجتمع السوري الذي لا تقوم دولة سورية الجديدة بدون هذه اللحمة، وهي مهمة شاقة، خاصة أمام نزعة الانتقام التي تعتمل في النفوس بسبب ما خلّفه النظام “الأسدي” من إجرام، وبسبب التعبئة الأيديولوجية المتشددة لجزء كبير من عناصر هيئة تحرير الشام وحلفاؤها، والمشبعين بفكر ابن تيمية وفتاواه، التي تتسبب في تدخل عناصر من الأمن العام ومن يواليهم، في حياة الناس اليومية أحيانًا، وفي لباسهم ومأكلهم ومشربهم.
ثمة فروقات في مدى شعبية كلتا البدايتين، فسلطة البعث 1963 لم تكن أكثر من انقلاب عسكري ليس لجماهير الشعب أي دور في قيامه، وكان البعثيون قلةً تتوزع على أكثر من تنظيم، ولا يزيد مجموع أعضائها على 500 عضو، ولم ترحّب بهم المدينة، في حين إن أوضاع السلطة الجديدة 2024 لقيت اهتمامًا دوليًا كبيرًا، وترحيبًا شعبيًا واسعًا جدًا، ويُعزى ذلك إلى أسباب عديدة، منها شدة المعاناة وطول انتظار السوريين سقوط نظام الأسد. وتعدّ السلطة الحالية ذاتها “سلطة سنية”، إلا أنها تعلن في خطابها أنها سلطة كلّ السوريين. أما موضوع أيديولوجية هيئة تحرير الشام، التي “كانت تتبنى” إقامة دولة دينية على نهج السلف الصالح، فهي الآن في مرحلة تحول كما يبدو، ويبدو أن القيادات واعية إلى أن الدولة الدينية لا تلقى سوى تأييد محدود بين السوريين، وقد بيّن استطلاع آراء السوريين الذي قام به المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، خلال شهر تموز 2025، أن 60 % من المستجيبين يرون أن النظام الديمقراطي هو أفضل الأنظمة، وأنّ 8 % منهم فقط يريدون نظامًا يحكم بالشريعة الإسلامية، من دون وجود انتخابات أو أحزاب سياسية. وعلى الرغم من أنّ السلطة الحالية بذاتها لم تعلن تبنيها نظامًا دينيًا، فإنها من جهة أخرى تتجنّب تبني الديمقراطية والحريات العامة، ويلقي كثير من أتباعها خطبًا معادية للديمقراطية، ويعدّونها كفرًا.
من قبل ومن بعد:
من قبل: انتهى نظام البعث إلى نتيجة عكس ما كان يعلنه، وقد تغلبت الأطماع الفردية على المبادئ المعلنة، فقد أدت سيطرة الدولة على الاقتصاد والعباد إلى كبح القدرة الإنتاجية المادية والروحية للسوريين، وتراجع ترتيب سورية في سلم التنمية بين الأمم، وعم الفساد والإثراء من خلال استغلال السلطة العامة، “اختلاط التجارة بالإمارة”، وهو الأمر الذي حذر منه ابن خلدون، “فالسلطة مفسدة، والسلطة المطلقة مفسدة بشكل مطلق”، وتحول النظام برمته إلى نظام استبدادي لم يتوانَ عن ارتكاب أي جريمة في سبيل الاحتفاظ بالسلطة.
من بعد: بأمل السوريون أن تكون السلطة القادمة، التي تتشكل الآن خلال المرحلة الانتقالية، سلطة تترجم ما ناضل السوريون من أجله عقودًا عدة، وانتظروه طويلًا، ثم قاموا بثورتهم في 2011 من أجله، وأن تكلل سوريا أخيرًا بنظام سياسي واقتصادي واجتماعي منتج، يتيح تفتح القدرات المادية والروحية للسوريين، فقد تعب السوريون من الحرب، وتعبوا قبل ذلك من الاستبداد، وباتوا يتطلعون إلى مرحلة جديدة يعود فيها الأمن والاستقرار وتعود بها لحمة المجتمع وتنطلق إعادة الإعمار امادي والمجتمعي، وتتوفر فرص العيش، وأن تكون السلطة بيد الشعب، وتسود الحريات العامة، التي خرجوا بثورتهم من أجلها، حريات سياسية واقتصادية واجتماعية.





