[jnews_post_author]
من رحم الحروب تُولد وتنشأ الدول ، بفعل الحروب تتبدل خرائط دول وتختفي أخرى من الخريطة السياسية للعالم. سوريا ، بعد حربها الراهنة ، لن تكون كما كانت قبلها. الحرب في سوريا أعادت طرح المشروع الفرنسي زمن الانتداب ” تقسيم سوريا إلى خمس دويلات”. وإن على شكل ولايات أو أقاليم فيدرالية، كأحد الخيارات والسيناريوهات ، لإنهاء المأساة السورية والتخلص من نظام مركزي استبدادي ، احتكر السلطة والثروة منذ انقلابه على الدولة عام 1963.
البعض من السوريين لا يملكون فكرة واضحة عما تعنيه الفيدرالية المقترحة لبلادهم. باختصار: الفيدرالية هي نظام حكم تتوزع فيه السلطات دستورياً بين حكومة مركزية وطنية فيدرالية وحكومات محلية للأقاليم. قضايا الدفاع، السياسة الخارجية ، الميزانية ، السياسة المالية تكون من اختصاص الحكومة الوطنية الفيدرالية . في حين تبقى القضايا الخدمية والأحوال المدنية والتعليم من صلاحيات واختصاص الحكومات المحلية للأقاليم التي تتمتع بحكم ذاتي في إطار النظام الفيدرالي/الاتحادي.
من الناحية القانونية، لا تتناقض الفيدرالية مع وحدة الدولة وسيادتها , ولكن في الحالة السورية، الفيدرالية تأتي على نقيض التجارب الفيدرالية التي تمت في العديد من دول العالم . تاريخياً، الدولة الاتحادية / الفيدرالية، قامت انطلاقا من المقسم إلى الأكثر توحيدا. بمعنى أن الفيدرالية مشروع توحيدي لكيانات سياسية قائمة مستقلة ( دول، أقاليم، إمارات)، ولم تكن مشروعا تقسيميا لدولة قائمة كما يراد من فدرلة سوريا . تقسيمها الى أقاليم على أسس عرقية، طائفية، مذهبية، قبلية. الفيدراليات على مقاس خرائط وحدود الأقليات، ستنتهي إلى التقسيم لا محال . وقد تتسبب بحدوث فوضى واضطرابات وإشعال حروب ونزاعات مفتوحة. مثلما حصل ويحصل في العراق، منذ إعلانه دولة اتحادية/ فيدرالية، بإقليم عربي وآخر كردي، فرضها الأمريكي، خدمة لمصالحه الاستراتيجية في العراق و المنطقة ، وركبت ايران ظهر العراق بعد ذلك ، واستجابة لرغبة الانفصاليين الأكراد . سوريا الفيدرالية لن تكون أفضل من حال العراق الفيدرالي . فالحالة السورية مشابهة كثيراً للحالة العراقية، خاصة من جهة التركيبة السكانية (العرقية والطائفية والمذهبية)، وذات المشكلات التي عانى ويعاني منها العراق تعاني منها سوريا.
مقارنةً مع خطر الفيدرالية على وحدة ومستقبل الوطن السوري، تبقى اللامركزية الإدارية هي الخيار الأنسب للحالة السورية والأكثر قبولاً لدى غالبية السوريين معارضة وموالاة . على أن تُحدد وتُقام الأقاليم على أساس جغرافي / إداري ، وليس لاعتبارات إثنية أو طائفية أو قبلية. على مدى عقود أخفق النظام المركزي في الانتقال بسوريا إلى دولة مواطنة وتحقيق الاندماج الوطني بين مختلف المكونات السورية , وفشل في النهوض بالبلاد وإنجاز التنمية الاقتصادية والبشرية . إخفاقات النظام المركزي جعلت من اللامركزية الادارية، كإحدى آليات العمل الديمقراطي في الحكم ، حاجة وطنية، ملحة وضرورية، للتخلص من الإرث الثقيل لعهد الاستبداد.
لا خوف على وحدة الدولة السورية مع لا مركزية إدارية، بدستور وطني منه تُستمد القوانين والسلطات المحلية للأقاليم . بل من شأن اللامركزية الإدارية، بمنحها الأقاليم بعض السلطات والصلاحيات الدستورية في إدارة شؤونها الحياتية والخدمية من خلال مجالس محلية منتخبة، تعزيز الهوية الوطنية و ترسيخ المبادئ الديمقراطية وتقوية التماسك المجتمعي وتحقيق العدالة الاجتماعية في توزيع الثروة الوطنية والتنمية المتوازنة لمختلف المناطق السورية وإتاحة المجال أمام السوريين للمشاركة الحقيقية في حكم وإدارة بلادهم، بعد عقود من الحرمان والإقصاء . نظام لامركزي ديمقراطي سيوفر البيئة الوطنية المناسبة لحل معظم القضايا والمسائل العالقة والمهملة. في مقدمتها ، قضية الديمقراطية وتداول السلطة ومسألة الأقليات، التي وقعت ضحية نهج الإقصاء والاستبداد لحكم الأسد والبعث .
أما في الدولة اللامركزية، من المفترض أن يعترف الدستور الوطني بالهويات والثقافات واللغات الخاصة للمكونات السورية غير العربية ، مثل الآشوريين سرياناً كلداناً والأكراد والأرمن والتركمان والشركس، وأن تسمح القوانين المحلية للأقاليم، لهذه المكونات تعليم لغاتها الخاصة وتطوير تراثها كجزء من التراث الوطني لسوريا.
نظراً لخصوصية منطقة الجزيرة، وكونها أكثر المناطق السورية فقراً وعوزاً وتأخراً رغم أنها أغناها بالثروة النفطية و الزراعية والحيوانية، هي الجزيرة أكثر الأقاليم السورية حاجة لـ “إدارة ذاتية” تتيح لأبنائها تخديم وتنمية مجتمعهم ، على أن تأتي الإدارة الذاتية في إطار مشروع وطني ديمقراطي. بالنسبة لـ ” الإدارة الذاتية ” التي يديرها حزب الاتحاد الديمقراطي PYD في المناطق الخاضعة لسيطرة ميليشياته في منطقة الجزيرة (الشمال الشرق السوري)، لا يمكن لها أن تكون جزءا من مشروع وطني ديمقراطي وهي مفروضة بقوة السلاح ومن دون أن يكون عليها إجماع وطني سوري. وقد باتت هذه الإدارة دويلة، بحماية أمريكية، لها جيشها ونظامها واقتصادها وحدودها وشريعتها ومناهجها ونشيدها وعلمها. الكثير من المعطيات والوقائع السياسية والممارسات على الارض ، تؤكد أن “الإدارة الكردية” هي جزء من مشروع قومي كردي يعمل عليه الأكراد الحالمون بما يزعمونه “كردستان الكبرى”.
أخيراً: إذا كانت الفيدرالية أرقى الأنظمة السياسية، فإنها بالنسبة لسوريا ، تبدو مدخلاً إلى أسوأ السيناريوهات التي سيواجهها الشعب السوري. الفيدرالية صيغة تجميلية لتقسيم وتفكيك الدولة السورية ، المنهكة والمنقسمة بين الاحتلالات الأجنبية والتنظيمات الإسلامية المتشددة والإرهابية والميليشيات المحلية والمستوردة.
سليمان يوسف… باحث سوري مهتم بقضايا الأقليات…
shuosin@gmail.com